التاريخ العثماني المفترى عليه

التاريخ العثماني المفترى عليه

26 ديسمبر 2017
+ الخط -
كنت عائدا من سوق الشورجة في بغداد إلى مدينتي، الشعب، شرق بغداد، منتصف التسعينيات. ولم يكن سائق التاكسي الذي أوقفته سوى أستاذي في المرحلة المتوسطة، مدرس مادة التاريخ. ولم يكن من العيب، أو المعيب، أن يعمل المدرس، أو حتى الدكتور، سائق تاكسي، فالرواتب لم تكن، بسبب الحصار، كافية لجلب طبق بيض. أتذكّر ما قاله لي يومها "يا بني، عد واقرأ التاريخ، فالتاريخ الذي كنا ندرسكم إياه مزور ومليء بأكاذيب. على سبيل المثال، كنا ندرّسكم أن العثمانيين هم استعمار، والحقيقة، يا ولدي، إنهم خلافة إسلامية، شئنا أم أبينا، اتفقنا معها أم لم نتفق".
أسوق تلك الحادثة، في أجواء السجال الذي فجرته تغريدة لحساب مجهول الهوية، تحدّث فيها عن فخري باشا، آخر الولاة العثمانيين على المدينة المنورة قبل انهيار الدولة العثمانية، وأعاد وزير خارجية الإمارات، عبد الله بن زايد، تغريدها، وهو الذي يجب أن يعرف، قبل غيره، أن إعادة تغريدة مسيئة للتاريخ العثماني إنما هي إساءة للدولة التركية الحالية، ناهيك عن أنها إساءة لتاريخ إسلامي امتد ستة عقود، بغض النظر عن مدى اتفاقنا معه.
ليس التاريخ مجرد سير وقصص من الماضي، يتم روايتها لجيلي الحاضر والمستقبل. إنه روح، مادة قادرة على أن تصنع الحاضر وحتى المستقبل. إنه دروس وعبر، مادة لها القدرة على أن تصنع أمة أو تطيحها. يقول الكاتب والروائي الإنكليزي، جورج أورويل: من يتحكّم بالماضي يتحكم بالمستقبل، ومن يتحكّم بالحاضر يتحكّم بالماضي. وهو بهذا يشرح، باختصار، أهمية التاريخ في حياة الأمم، وكيف أنه يمكن أن يقودك إلى المستقبل، ولكن فقط عليك أولاً أن تُمسك بهذا التاريخ، وحتى تُمسك به، لا بد لك أن تمسك بالحاضر.
لم يتعرّض تاريخ حقبةٍ زمنيةٍ للتشويه والتزوير، كما تعرّض له التاريخ العثماني. أولا من الأتراك أنفسهم، فبعد انهيار الخلافة العثمانية، ومجيء الدولة التركية الحديثة على يد القوميين الأتراك بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، قام هؤلاء بعملية التبرؤ من تاريخ الدولة العثمانية، فلم يتورّعوا عن نشر تاريخٍ لهذه الخلافة العثمانية، تاريخٍ يشوّه الحقائق ويزوّرها، بهدف قطع العلاقة، حتى الروحية، ما بين الشعب التركي وإرثهم العثماني الممتد ستة قرون، فالقوميون الأتراك، قبل غيرهم، كانوا يخافون من أن يبدأ شعبهم التركي بالحنين إلى هذا الماضي.

ثم كان العرب ثاني من أسهموا في تشويه التاريخ العثماني، فمعروف أن الدول العربية التي أنشئت عقب انهيار الدولة العثمانية تبنت القومية شعارا، فكان أن كتبت هذا التاريخ بنظرة قومية بحتة، ولعل المناهج الدراسية، وتحديدا مادة التاريخ، كانت زاخرة بذلك، ولعل من أولى تلك الأكاذيب وصف الخلافة العثمانية بالاستعمار، والكل يعرف أن العثمانيين كانوا خلافة إسلامية، تتبنى المذهب الحنفي في قوانينها، ولم تكن دولة استعمارية. نعم ربما شابت هذه الدولة، والإمبراطورية الكبيرة، من وقت إلى آخر، ممارسات تشبه ممارسات مستعمر، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون سببا لوصف هذه الدولة بالاستعمار.
أسهم الغربيون إسهاما كبيرا أيضا في تشويه صورة الدولة العثمانية، فقد ذاق الغرب الأوروبي ويلات الدولة العثمانية القوية التي كانت تهدّد كبرى عواصم الغرب، حيث تفيد كتب التاريخ بأن الدول الغربية كانت تدفع الجزية للدولة العثمانية، وآخرهم أميركا، الدولة التي كانت مكتشفة حديثا. أما علاقة الغرب مع السلطان عبد الحميد الثاني، وكيف وقف بوجهه، ورفض استقطاع فلسطين لدولة يهودية، فذلك أشهر بكثير من أن يُفرد له جانب من هذه العجالة.
ليس دفاعا عن التاريخ العثماني، فهو قادر على أن يقف على قدميه، ويدافع عن نفسه بوجه من يريد تشويهه أو يحاول ذلك، ولكن الانتقاص من التاريخ العثماني هو انتقاص من العرب، مادة الإسلام الأولى، فالعرب كانوا جزءا من هذه الخلافة، ولعل الضباط العرب في الجيش العثماني الذين قاتلوا في حروبٍ كثيرة للدولة العثمانية، وحتى الحرب العالمية الأولى، دليل آخر على أن العرب كانوا جزءا فاعلا من هذه الخلافة. نعم قد يأتي سلطان ويستبعدهم وآخر يقرّبهم، تماما كما فعلت خلافات إسلامية "عربية"، منذ الخلافة الأموية.
نحتاج اليوم أن نقرأ التاريخ بعيوننا نحن، لا بعيون غيرنا. بفهمنا نحن له، لا بفهم غيرنا، فنحن اليوم أقدر من الآخرين على قراءة تاريخنا. وعلينا أن نعيد قراءة التاريخ، حتى نعرف الحاضر. لماذا وصلنا إلى هذه الحالة التي نحن عليها، لماذا فقدنا فلسطين وأراضي عربية أخرى؟ لماذا لم تصمد قوميتنا؟ لماذا لم تنجح تلك القومية أصلا؟ وهل نحن قوم يمكن أن نُحكم بالقومية، أم أننا أمة ما كان لها أن تكون لولا الإسلام ؟ كثير من تساؤلاتنا يمكن أن يجيب عليها التاريخ، التاريخ الإسلامي، أمويا كان أو عباسيا أو عثمانيا.
يقول الكاتب الأميركي الساخر، مارك توين، "الحبر الذي كتب به التاريخ ما هو إلا تعصب سائل".
96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...