صفعات ترامب تسبق صفقته الكبرى

صفعات ترامب تسبق صفقته الكبرى

17 ديسمبر 2017
+ الخط -
يؤكد قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في شأن القدس عاصمة لإسرائيل، توأمته الواضحة بين ما كان قد صدر قبل قرن من وعد دنيوي لليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين، وهو ما توافق مع وعد "إلهي" مزعوم بمنح فلسطين لهم؛ ليأتينا اليوم من يعدهم ويعدنا بصفقة "قرن جديد" تاريخية، ها هي تبدأ اليوم بمنح إسرائيل وعد الصفقة الثاني، تعبيرا عن اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى المدينة المقدّسة.
تلك توأمة سياسية استعمارية، ساوت وتساوي بين الوعد (وعد بريطانيا البلفوري) ووعد الصفقة الترامبي، بحيث لا يبقى من فلسطين سوى الاسم؛ اسم السكان الفلسطينيين الذين لا يستحقون أكثر من حكم ذاتي محدود السلطة والصلاحيات، وبلا أي شكل أو نوع من أنواع السيادة، كما هو متعارف عليها دوليا، ولتسمَّ دولة أو إمارة أو مملكة أو مقاطعة، ليس مهمّاً، المهم أن أوهام الدولة يمكن تجسيدها عبر نفي الدولة، ونفي الحقوق الثابتة لمواطنيها، بكل ما يترتب عليه ذلك من إنهاء أي مطالبة فلسطينية بأي حقٍّ من حقوق الشعب الفلسطيني فوق تراب أرض وطنه التاريخي، الذي لم يكن يوماً غير ذلك، إلا حين برّت بريطانيا بوعدها المشؤوم، وسلّمت الوطن الفلسطيني لمستعمريه الجدد، وها هو ترامب يبرّ بوعده الأميركي بعد أن ماطل كل رؤساء الولايات المتحدة في اتخاذ قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة إليها.

هكذا تبدو خطوة ترامب غير المسبوقة، وكأنها اعتراضية ليست تكتيكية، تستبق أي جهد سياسي أو دبلوماسي تفاوضي، لا يمكن أن يكون جدّيا؛ في وقتٍ بدت وتبدو التسوية الموعودة أكثر استحالة وبعدا من الواقع، بفعل عدم التكافؤ بين طرفي التفاوض، حتى ولو كان الوسطاء أكثر نزاهة، لكن للأسف الوسطاء هنا أكثر ميلا إلى تأييد إسرائيل ودعمها، وإظهار الانحياز لها بشكل مطلق. فماذا يمكن أن يتبقى من صفقةٍ صحيح إنها بداية قرن جديد من سلب الحقوق الفلسطينية، لكنها ليست تاريخية، ولا هي كبرى، كما يجري توصيفها، بل على العكس من ذلك، فالتغيير الراهن في السياسة الأميركية الذي تقود إليه مواقف إدارة ترامب وإجراءاتها في شأن الوضع في المنطقة، لن يقود إلى أي نوع من أنواع التقدم على صعيد التسوية، فهل هذا ما أراده ترامب، وهو يستجيب لكل طلبات نتنياهو بالانحياز المطلق والدعم الثابت لإسرائيل؟
الإقدام على مثل هذا "التفجير" بعيون مفتوحة، الذي شكلته قرارات ترامب، لن يساعد على استقرار المنطقة والعالم، نظرا لمحورية قضية القدس والقضية الفلسطينية، كقضية لا تهم الفلسطينيين وحدهم فحسب، بل والعرب وشعوب العالم المختلفة التي تؤمن بالحرية وحقوق الإنسان وبالعدالة والمساواة، وهذا ما يتناقض تناقضا صارخا بين ما تراه الإدارات الاستعمارية وأنظمة الاستبداد ومن يواليها، وما تراه شعوب هذه البلاد من توق للحرية والعيش بكرامة في أوطانها المستقلة حقا.
لقد قدّم ترامب وإدارته آخر رتوش إظهار المشروع التهويدي الاستيطاني للحركة الصهيونية، وكيانها الاستعماري المتوافق كليا مع تلك العقلية الكولونيالية، وذلك على حساب كل الأماني والتطلعات الفلسطينية والعربية، حتى إن المشروع الوطني الفلسطيني بات أكثر انكشافا وعرضة لهبات رياح السموم، من دون القدرة على مواجهتها بإمكانات الذات المنقسمة، وفي غياب أي دعم عربي أو إقليمي جدّي، وشراسة دولية في الهجوم على قضية شعبٍ لطالما رددنا وزعمنا أنها قضيتنا المركزية، وها نحن نكتشف اليوم أن القضايا المركزية لأصحاب النظام الرسمي العربي لا تتعدّى أعتاب سلطاتهم الحاكمة، وقد كشف "الربيع العربي" عن وهن السلطة، ومن يفترض أنهم يقفون في مواجهتها، في حين دخلت دببة الإرهاب كل كرومنا، بينما اكتشفنا أن عديدا من تنظيمات "الثوار" أو بعض المعارضة السياسية، لم يكونوا على قدر المسؤولية. وفي حمأة الصراع، تبلورت القوى في معظمها عن سلطاتٍ موازيةٍ لم تختلف مسلكياتها وممارساتها القمعية والبوليسية عن السلطة التي قامت الثورة من أجل تغييرها. وأن الجميع كانوا سلطات تتناحر من أجل النفوذ، لا من أجل التغيير أو القضايا العامة.
في وضع كهذا، انشغل الفلسطينيون بأنفسهم، وباتت السلطة مطلبهم شبه الوحيد، وغرقوا في بحار من وهم المفاوضات التي يمكن أن تأتي بالدولة، في تسوية ممكنة، لا تستند إلى أي قوة أو قوى ذاتية، جرى تبديدها مع الزمن الذي أعقب اتفاق أوسلو، ولم يبق منه سوى "هيكله العظمي" على هيئة "تنسيق أمني" ومصالح زبائنية خاصة.

وإلى أن جاءت خطوة ترامب غير المسبوقة، كان من الطبيعي أن تجرّد الوضعين، الفلسطيني والعربي، من كل عناصر قوة دفع مواجهة احتمالات تعدّي كل الخطوط الحمر التي جرى ويجري انتهاكها من دون حسابات ربح أو خسارة، فالخاسر الوحيد أو الأوحد هو نحن، والرابح دائما هو إسرائيل، أما الولايات المتحدة وبريطانيا، ومن يواليهما من دول العالم، فهم إلى جانب أوضاعنا المزرية وتخلفنا المهين، السبب الرئيس في توأمة انكساراتنا وهزائمنا ونكساتنا ووكساتنا، وكل عوامل غياب العقل والقوة والغلبة وتوصيفاته، تلك التي أصابتنا وتصيبنا منذ قرن مضى، ولا نستبعد أن يستمر هذا حالنا في القادم من العقود، إن أحسنّا الظن.
كل هذا وهناك من العرب من اعترض على توقيت قرار ترامب، مجرد اعتراض على التوقيت! أما من حيث المبدأ، فلا اعتراض، يا للهول، هناك من يسلّم بالقدس عاصمة لدولة احتلال استيطاني عنصري، كما سلم بعض الفلسطينيين والعرب من قبل بفلسطين دولة يهودية استيطانية، على حساب الأرض وشعب الأرض التي لم تكن يوما منذ فجر التاريخ، أو على الأقل ما قبل الكنعانيين سوى فلسطينية، والشواهد واللقى الآثارية لم تثبت يوما حتى بشهادة علماء آثار إسرائيليين وغربيين منصفين، وجود أي أثر توراتي في كل أرض فلسطين التاريخية؛ لا قبل الفترة التي تتبنى سردياتها التوراة ولا بعدها، لكن الاعتراض على توقيت سلب القدس اليوم ما هو إلا استمرار بالاعتراف بسلب فلسطين وخروجها من أيدي أصحابها. فهل هناك هوان أكثر من هذا الهوان؟
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.