لماذا فشل مشروع استقلال كتالونيا؟

لماذا فشل مشروع استقلال كتالونيا؟

05 نوفمبر 2017
+ الخط -
باتت الأزمة الكتالونية نقطة فاصلة في تاريخ إسبانيا المعاصر، بسبب الرجّة العميقة التي أحدثتها داخل الدولة والمجتمع على الصعد كافة، بعد أن أصبحت معظم المؤشرات تدل على أن حلم الاستقلال صار بعيدا، إن لم نقل مستحيلا.
كشفت التفاعلات التي أعقبت استفتاء فاتح أكتوبر/تشرين الأول طبيعة ميزان القوى بين الحكومتين الإسبانية والكتالونية. ويمكن القول إن تصويتَ برلمان الإقليم على قيام ''جمهورية كتالونيا المستقلة''، ومصادقةَ مجلس الشيوخ الإسباني على تفعيل المادة 155 من الدستور التي تقضي بتعليق الحكم الذاتي في الإقليم وتولي مدريد إدارة شؤونه، وإقالةَ رئيس حكومة الإقليم ورئيس جهاز الأمن المحلي، وحلَّ البرلمان الكتالاني، والدعوة إلى انتخابات محلية سابقة لأوانها في ديسمبر/كانون الأول المقبل، وزيادة حدة الانقسام داخل المؤسسات والشارع والرأي العام في كتالونيا، لا سيما بعد المظاهرة الحاشدة في برشلونة، يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، رفضا للانفصال عن إسبانيا، وتمسكا بالوحدة الترابية لإسبانيا، ذلك كله يؤكد أن خطوة الانفصال لم تكن مدروسة جيدا، ولم تأخذ بالاعتبار جملة عوامل، يبدو أنها تُرجح كفة الحكومة المركزية في معركة كسر العظام هاته بين الطرفين.
كان للعامل الاقتصادي دور كبير في إذكاء الخطاب الانفصالي في الإقليم، بعد الأزمة المالية والاقتصادية التي عصفت بالبلاد سنة 2008، وتحول هذا العامل إلى إحدى حلبات الصراع الأساسية بين الطرفين، خصوصا بعد رفض المحكمة الدستورية عام 2010 منح الإقليم صلاحيات موسعة في إدارة موارده الاقتصادية، الأمر الذي كان له كبير الأثر في تشكل حركة كتالانية شعبية متعدّدة الأطياف، تطالب بالاستقلال عن إسبانيا، في ضوء ما تجود به بعض الأرقام في هذا الصدد، فتكفي الإشارة إلى أن 23% من موارد إسبانيا الضريبية تأتي من كتالونيا، كما أن الأخيرة تساهم بحوالي 20% من النتاج المحلي الإجمالي.
وكانت المفارقة الكبرى في هذا الصدد بعد الاستفتاء، حيث غادرت برشلونة أكثر من 1600
شركة ومؤسسة اقتصادية تعمل في قطاعات حيوية، كالمصارف والسياحة والصناعة، ما شكل رسالة واضحة ودالة من الرأسمال الكتالاني والإسباني والأوروبي إلى معسكر الانفصاليين، وأربك، إلى حد كبير، حساباته.
تكشف الحالة الكتالونية بجلاء أن عوامل اللغة والثقافة والهوية قد لا تسعف، في أحيان كثيرة، حركات الانفصال المختلفة في إنجاز مشاريعها الاستقلالية، في ظل سطوة اقتصاد عالمي عابر للقارات، لا يولي أهمية كبيرة لهذه الحركات، ما لم تتطابق مع مصالح قواه المؤثرة والفاعلة.
على صعيد آخر، مَثَّل ما حدث في مدينة بلنسية، يوم 9 أكتوبر/تشرين الأول الفائت، منعطفا دالا في مسار الأزمة، على الرغم من أن كثيرين لم ينتبهوا إليه، حين اعترضت بعض جماعات اليمين المتطرف مظاهرة مناصرة لاستقلال كتالونيا، ما أدى إلى مواجهات عنيفة بين الطرفين، انتهت بتدخل قوات الشرطة.
وعلى محدوديته، إلا أن الحدث، ربما، أثار انتباه اليمين المحافظ الحاكم في مدريد إلى أهمية التلويح بهذه الورقة في التوازنات السياسية والاجتماعية. يبدو تأثيرُ اليمين المتطرّف في إسبانيا جدَّ محدود، قياسا إلى بلدان أوروبية أخرى، لأسباب تاريخية ترتبط بالفترة الطويلة، نسبيا، التي قضاها الإسبان تحت حكم الفاشية الفرانكوية، الأمر الذي جعل التخلص من إرثها السياسي والثقافي والاجتماعي أحد الرهانات الكبرى لقطاع واسع جدا من النخب والمجتمع، طوال العقود الأربعة المنصرمة.
على الرغم من ذلك، قد يتحول اليمين الشعبوي طرفا في المعادلة السياسية والمجتمعية في أي لحظة، إذا ما رأى اليمين المحافظ، ذو الجذور الفرانكوية، أن الوحدة الترابية للبلاد صارت مهدّدة، ما قد يدفعه إلى التلويح بهذه الورقة، سواء بغض النظر عن أنشطة جماعات اليمين المتطرّف، أو حتى التحالف معها إن اقتضى الأمر ذلك.
زيادة على ذلك، لا يبدو النفق المسدود الذي دخلت إليه القضية الكتالانية بعيدا عن مواقف القوى الدولية الكبرى التي لم تُبد أي تعاطفٍ مع مشروع الانفصال الكتالاني لأسباب كثيرة. فالاتحاد الأوروبي رفض، منذ البداية، طلب حكومة الإقليم التدخل بالوساطة، وفي ذلك رسالة دالة برفض انفصال كتالونيا وعدم الترحيب به داخل الاتحاد. وقد طالبت الأمم المتحدة الطرفين بضرورة التوصل إلى ''حل في إطار الدستور والقانون''، وأعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا رفضهما الانفصال وتمسكهما بوحدة إسبانيا.
تستند هذه المواقف الدالة إلى رؤية استراتيجية متوازنة لمنطقة غرب المتوسط ومضيق جبل طارق، والتي تلعب فيها إسبانيا دورا أساسيا في ما يتعلق بتصريف السياسات الدولية الكبرى إزاء قضايا حسّاسة، مثل الأمن، ومكافحة الإرهاب، واللجوء، والهجرة غير الشرعية. ولا شك أن انفصال جزء منها سيربك سياستها الإقليمية، الأمر الذي قد تكون له تبعات خطيرة على المعادلة الاستراتيجية في المنطقة.
في السياق نفسه، قد يؤدي استقلال كتالونيا إلى إذكاء الشعور القومي لدى أعراق وجماعات 
إثنية ولغوية في أوروبا، ما قد يفضي إلى تقسيم البلدان الأوروبية وتفكيكها. وإذا كانت الديمقراطية، والتنمية، والحقوق والحريات، والعدالة الاجتماعية، ومستوى المعيشة الجيد، كلها عوامل أسهمت في الحد من هذا الشعور، وإعادة إنتاجه، بما لا يشكل تهديدا للهوية الوطنية الجامعة، إلا أن انفصال كتالونيا قد ينعش هذا الشعور في أكثر من بلد أوروبي. من هنا، يمكن، مثلا، فهم الموقف الفرنسي وإدراكه؛ فلا تعود مناهضة باريس استقلال كتالونيا فقط إلى وجود حركتين انفصاليتين في إقليمي كورسيكا وبريتاني، بل ترتبط أيضا، وهذا هو الأخطر، باحتمال أن تُقدم كتالونيا، في حالة استقلالها عن إسبانيا، على مطالبة فرنسا بإعادة مناطق شاسعة من كتالونيا التاريخية، كانت قد تخلت لها عنها إسبانيا بموجب اتفاقية ''البرانس'' عام 1659، وهو أمر قد يبعث الروح في نزاعاتٍ حدوديةٍ قديمةٍ في أوروبا، يشتبك فيها التاريخ بالجغرافيا وحساسيات هوياتية نائمة.
الاقتصادُ، والتوازناتُ الإقليمية والدولية، وهاجسُ اليمين الشعبوي، أسباب تجعل استقلال كتالونيا شبه مستحيل، ولا شك أن قادة الانفصال باتوا يدركون أنهم أخطأوا توقيت إعلان الاستقلال، ولم يقرأوا جيدا خيوط المعادلة الكتالونية، في أبعادها الإقليمية والدولية. لكن هذا لا يمنع من القول إن إسبانيا باتت اليوم بحاجة لمشروع مجتمعي جديد، يستوعب المتغيرات الحاصلة، ويفتح الباب أمام تجديد المؤسسات والنخب والأحزاب، وإعادة النظر في العلاقة بين الحكومة المركزية والأقاليم، بما يُسهم في فتح نقاش عمومي موسع بشأن القضية الكتالانية وغيرها.