دولة الحشد الشعبيّ قادمة

دولة الحشد الشعبيّ قادمة

05 نوفمبر 2017
+ الخط -
قد يصحّ، في هذه الغضون القول، إن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، بات يضبط ساعته وفق توقيت الحشد الشعبي، ذلك أن هذا التنظيم الشعبي الذي خرج إلى العلن وفق "فتوى" سياسية، سطّرها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وأخرى دينية سطرتها المرجعيات الدينية في النجف، حين دعت إلى "الجهاد الكفائي"، في اللحظات التي كان خطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يداهم العراق بأسره، وعليه بات الحشد يحتلّ موقعاً مهمّاً في المتن السياسي والعسكري للعراق.
وعلى الرغم من أن الحشد الشعبي تمت شرعنته وفق قانون خاص صدر عن البرلمان العراقي في فبراير/ شباط 2016، أي بعد أقل من عامين من انطلاقته فعليا، وتم بموجب هذا القانون ربط هذه المؤسسة النامية برئيس الوزراء، على اعتباره القائد العام للجيش والقوات المسلّحة، إلا أن واقع الحال يفيد بأن هذه المؤسسة المسلّحة ترفض "الأبوّة" الحكومية، وتأبى الانصياع لقرارات الحكومة العراقية، وإن كان الصدام بين الحشد والحكومة غير ظاهرٍ إلى العلن، إلّا أنه صدامٌ متوقّع عند النظر إلى القرارات التي يتخذها الحشد منفرداً أو عدد الانتهاكات المسجّلة بالضد من السكان المحليين التي اضطلع بها عناصر منضوون في هذه القوات، كالتي حدثت في مناطق عربيّة سنية إبّان استعادتها من قبضة "داعش"، أو التي حدثت أخيرا في المناطق "المتنازع عليها" في مواجهة السكّان الأكراد، وفق ما تفيد به تقارير أبرز جماعات حقوق الإنسان الدولية، مثل تقرير منظمة العفو الدولية (أمنيستي) أخيرا في 24 أكتوبر/ تشرين الأول، والذي أشار إلى "الاستهداف وعمليات النهب والسلب وإحراق البيوت وهدمها في المناطق ذات الأغلبية الكردية".
لم يعد خافيا القول إن الحشد الشعبيّ يشبه، في جوهره وطبيعة تركيبته، قوات الباسيج أو
الباسداران (الحرس الثوري) الإيرانيتين اللتين أمر بإنشائهما وتقنين حضورهما الإمام الخميني، وفق فتوى صادرة في العام 1979، فلم تتحول هاتان القوتان المتضافرتان إلى حالات مشروطة في الزمان والمكان، بل بقيتا منذ قيام الثورة الإيرانية أبرز أدوات السيطرة الدينية على منافذ الحكم ومخارجه، وهي القوات الأكثر موثوقيةً لدى السلطات الحاكمة في طهران، مع الأخذ بالحسبان أن الطبعة العراقية، وإن ضمّت، في تركيبها، عناصر عربية سنية وأخرى كلدوآشورية، وتركمانية، إلّا أن البادي منها أنها قوة طائفية شديدة الوضوح في مسلكها وتفكيرها، وهي تأتمر لمرجعيات شيعيّة، تربطها صلات وثقة بالمرجعيات الإيرانية، خصوصا إذا نظرنا إلى أبرز قادة الحشد، مثل هادي العامري وأبو مهدي المهندس اللذين سبق أن حاربا إلى جانب إيران، إبّان حرب الخليج الأولى، في مواجهة عراق صدّام حسين.
يذكّر مشهد الحشد الشعبي، في هذه الأثناء، أيضاً بمشروع (ونظرية) "تصدير الثورة" الذي مرّ بتحوّلاتٍ وتعديلاتٍ طرأت عليه، ففيما كان طموح الخميني أن تعمّ الثورة الإسلامية أرجاء العالم الإسلامي، فإن الأوضاع بالغة التعقيد منعت تصدير الثورة في أنموذجها الإيراني إلى المنطقة، ليتم تبديل تلك النظرية بأخرى تعتمد على إقامة مراكز شيعية في الأرجاء، ليتوّج المشروع في ما بعد في لبنان، ودائماً عبر حزب الله، درّة تاج المشروع الإيراني في التوسع داخل العالم العربي، ولنشهد لاحقاً مشروعاً موازياً في اليمن، عبر مليشيات الحوثي. ثم ومع بروز "داعش" تمّ تعويم المشروع "الثوريّ" هذا داخل العراق، فعديدون من قادة الحشد ومؤسسيه وأعضائه لا يتحرّجون من قول إنهم يتبعون في ولائهم للحرس الثوري الإيراني (الباسيج)، ولعلّ مشهد قائد فيلق القدس في هذا الحرس، قاسم سليماني، وتسيّده المشهد في كركوك، وإبرامه الصفقات مع قادة أكراد عراقيين، يفيد في الاتجاه نفسه.
مع انكفاء "داعش" في العراق، وخروجه من المشهد في الموصل، بات لدى الحشد الشعبي هدف آخر، تمثّل بدعم الحكومة العراقية، أخيرا، في ما خصّ إعادة بسط السيطرة على المناطق المتنازع عليها، والتي سبق للبشمركة الكردية أن بسطت سيطرتها عليها، بُعيد طرد "داعش" منها. وفي هذا السياق، بدا الحشد أكثر تعنتاً في مسألة رفض الحوار مع حكومة الإقليم التي بدأت تتراجع عن موضوع الاستقلال، وتمدّ اليد إلى بغداد، فعلى الرغم من أن الحكومة الكرديّة سطّرت مقترحاتها لحل الأزمة مع بغداد، عبر موافقتها على الحوار غير المشروط، وتجميد نتائج الاستفتاء، إلّا أن رفض الحشد تلك المقترحات الكردية سبق موقف رئيس الحكومة العراقية منها، ما تسبب بحرج للعبادي الذي يبدو أنه الآن في مواجهة مركز قرار موازٍ له في القوة داخل العراق، وربما قد يفوقه في مقبل الأيام.
قد يصحّ القول إن الحشد، وما يمثّله من ثقلٍ رمزي وعسكري، بات أبرز منافسي الحكومة 
العراقية، وأكبر الأخطار التي تهدّد استقلال العراق وسيادته. لذا تبدو الإدارة الأميركية متخوفةً من تحوّل العراق إلى عمقٍ عسكري واستراتيجي لإيران علنا، وهذا ما يفسّر الدعم الأميركي غير المحدود للعبادي، ومحاولات تعويمه في العالم العربي والمحيط الإقليمي للعراق، فالزيارات التي قام بها أخيرا رئيس الوزراء العراقي إلى عواصم عربية، وإلى تركيا، تفيد بأن أميركا تحاول انتشال العبادي من الوضع الداخلي المأزوم نحو علاقات مع العالم العربي والجوار (السنّي)، فضلاً عن الضغوط التي مارستها أميركا على حليفها الكردي، لكي لا يتعرّض موقع العبادي إلى الاهتزاز، وخصوصا وأن أي ضربة يوجهها الجانب الكردي لبغداد ستكون كافيةً، بصعود نجم الحشد والنفوذ الإيراني على حساب الحكومة العراقية. وفي المقابل، قد لا يكتب للسياسة الأميركية النجاح، لاسيما أن العلاقة العراقية الطارئة مع القاهرة والرياض أشبه بشهر عسلٍ مؤقت، في ظل زواج قسري فرضته أميركا على الجانبين.
وعليه، لم تعد الخشية والمخاطر الحقيقية متمثلة بالتقسيم، فالمشروع الكردي في الاستقلال انقضى، وكذلك لم تعد مرتبطة بانتشار الإرهاب، بعد أفول سحر "داعش" وسطوتها، بل تتمثل المخاطر الحقيقية القائمة في قدرة الحشد الشعبي على ابتلاع الدولة، والاستيلاء على قرارها السياسي والسيادي، وهذا متوقع في ظل رسوخ الطائفية في العراق، وضعف العرب السنة وتشظيهم من جهة، وعدم قدرة الأكراد على لعب دور "بيضة الميزان" داخل المعادلة العراقية، كما كانوا يفعلون في ما مضى من جهةٍ أخرى، ليأتي ذلك كله مع تمسكٍّ إيراني متصلّب بالحشد الشعبي الذي بات استثمار إيران الكبير في العراق، وفي ظل سياسات أميركية، قوامها التجريب والمحاولة، أكثر منها سياسات واستراتيجيات راسخة في المنطقة. وبالتالي، تدل كلّ المؤشرات على أن دولة الحشد الشعبي في العراق قادمة.