المأساة والمهزلة في ارتجافات جماهير حزب الله

المأساة والمهزلة في ارتجافات جماهير حزب الله

02 نوفمبر 2017
+ الخط -
شرائط اليوتيوب كانت السبّاقة في كشف حالة احتجاج صاخبة ضد إزالة مخالفاتٍ، ارتكبها أناس من صغار الكَسَبة من الجماهير المؤمنة بحزب الله. الصرخات الآتية من هناك كانت عنيفة. ولأول مرة، نسمع كلماتٍ ما كان يمكن أن تصدرعنها. كلماتٍ قاسية ضد الحزب، وشتائم لأمينه العام حسن نصر الله.
حصلت الواقعة في حيّ السلم، وفي أفقر نواحيه؛ أبطالها هم أفقر الفقراء. والمخالفات التي تعرّضت للإزالة هي الأكثر تواضعاً من بين تلك الممكن تصوّرها. مخالفات لمشاريع بالكاد تغطي نفقات عائلة معدومة، فالمخالفون هم أصغر المخالفين وأضعفهم... لا شيء بالمقارنة مع مخالفات "المسؤولين" العملاقة. ارتجافتهم كانت عالية: إذ كيف لهم أن يفهموا إزالة مخالفاتهم بعدما سجّل الحزب "انتصاراتٍ مجيدة" في الجرود؛ وقد ساهم أبناؤهم بتحقيقها، وعزّزت لديهم فكرة حصانتهم من أي حساب، على القليل الذي اقترفوه...؟ من بين الذي قالوه إنهم دفعوا فريضة الدم، ذهب أبناؤهم إلى سورية للقتال إلى جانب الحزب... فكيف يمكن ألّا يكافأوا على تضحياتهم هذه؟ امرأة من بينهم تكلّمت عن الفارق الطبقي بينهم وبين أبناء طائفتهم الذين يتمتّعون بالسيارات الفخمة... وهل يذهب أبناء هؤلاء إلى الحرب في سورية؟
على هذا الجانب، الإجابة الضمنية حاضرة عند حزب الله: النموذج الإيراني القائد. الحزب لا يهتم بغير عظمته الإقليمية، وقد جعلته أقوى مليشيات المشرق. مثل حكام إيران الذين حولوا التسلح والتكبُّر المذهبي إلى عقيدة تترفع على البطالة والفقر والتخلف المنتشرة في أريافها وبلداتها، فليس هناك من داع عقيدي "نظري" يوجب الاهتمام بشؤون الفقراء اللبنانيين المجنَّدين في حربه من ذوي الولاء البديهي. فأين أمجاد الهلال الشيعي أمام كلمات تافهة، مثل التنمية والتخطيط لأبسط الشؤون من أجل الفقراء المنضوين تحت جناحه، وطليعة المضحِّين بدمائهم؟
وجه ثان للمأساة: الفقراء المتزايدون في لبنان، المدعومون بمخالفاتهم وغير المدعومين، 
المرميون على أطراف المدن... هؤلاء المتزايدون من فقراء الطوائف الأخرى، وينزل منهم كل يوم أنفار إلى الشارع احتجاجا على مخالفة، كبرى، تضرّروا منها، أو إزالة مخالفة، صغرى، يجنون منها... لم يتفاعل أي منهم مع ارتجافة الحيّ الشيعي المعدَم. لم يطلّ أحدهم برأسه، ليقول شيئاً شبيهاً عن الأحوال الشبيهة، عن الذلّ والجوع الشبيهَين. ارتجافة في واد، لم تجد صدى إلا عند بعض رواد مواقع التواصل.
أما الإعلام، وهذا وجه ثالث للمأساة، فلم يكن أظرف. التقط المعادون لحزب الله الشتيمة الموجهة ضد حسن نصر الله. وبنوا عليها ثورة متفجرة. لم يروا في الارتجافة خراب بيوت، ولا انشغلوا بالكشف عن تفاصيل حياة أولئك المرتجفين، مواسم العذاب التي تنتظرهم هم بالذات. الشتيمة، لا غيرها، هذا ما التقطه معسكر المعادين للحزب؛ فاستعجلوا ثمارها... أما الموالون للحزب، فقصتهم أطول: بعد "الانتصار الثاني" للحزب في جرود عرسال، هرعوا إلى "المرحلة التالية"، فنصحوا الحزب بالإنكباب على الداخل، وعلى الشؤون المعيشية لـ"الناس"؛ إذ قُضي على التهديد الإرهابي، صار لزوما الدخول في طور "الإصلاح الداخلي". ثم يمضي أقل من شهرين على هذه الدعوة، المسمّاة "منعطفاً بعد الانتصار"، وينفجر فقراء حيّ السلم، فيردّ عليهم أصحاب الدعوة "الإصلاحية" بمقال افتتاحي عنوانه "أنقذونا من الزعران!". و"الزعران" هم "الذين يخالفون قوانين الدولة"، والذين يعرقلون التنمية والتخطيط، و"مسيرة لبنان" ثابتة الخطى، نحو"الإصلاح أو التغيير"، أو ما خالطها من عباراتٍ محفوظة.
الآن الجانب الهزلي من حادثة حيّ السلم. الشتيمة الموجهة ضد حسن نصر الله احتلت الصدارة. أحد نواب حزب الله، في البرلمان اللبناني العريق، تكفّل، أو كلِّف بالتصدّي لها، فكانت من أغرب الوقائع: النائب يقف أمام جمهور من المؤمنين، يتسمّر خلف المايكروفون، يغمض عينيه كالمجذوب، وبصوت متهدّج، مرتعش، يرتّل ديباجةً ترفع حسن نصر الله إلى 
مصاف الأنبياء. وفي صلاته هذه، يتذكّر النائب، الهائم على وجهه، كيف قبّل هو بنفسه "حذاءه الشريف" (حذاء حسن نصر الله)، وانحنى "تحت قدميه"، ما أشعره ساعتها أنه خرج من "هذا العالم الدنيوي" إلخ. فكان ذلك فاتحة اعتذارات متسلسلة: مذيعات، وأقنية تلفزيونية، شخصيات وأشخاص، بعضها مسجّل والآخر منقول، وهاشتاغ # إلا السيد (أي حسن نصر الله). وكلها تكرّر عبارات أفقر المعتذرين، ذاك الشاب المتهوّر الذي سُجلت شتائمه على الهواء، ثم فيديو يليه يطلب فيه السماح من "سماحة العاشق المؤتمن على الأرواح"... وفيضٌ من المشاعر الدونية: "وكل ما نملك فداء روحك"، أو "نحن لك من السامعين الشاكرين" .. إلخ. فتكرار للمهزلة، وختم الارتجافة بالشمع الأحمر، بأحكام التحريم والإجلال. فتكون الخلاصة: فقراء هامشيون يرفعون رأسهم دفاعاً عن مصدر رزقهم، وحذاء مقدس يخبط بهذا الرأس، فأفعال توبة بالدزينات.
أما المهزلة الأكبر، فهي تلك الدهشة المستمرة لحزب الله من "غياب الدولة". عملاً بدهشة تقليدية حولت "الدولة" إلى شبح قابل للاستثمار، لا يكلف شيئاً غير "الدهشة" عند استحضاره: رجالات دولة أنهكوها نهباً، ومخالفة لقوانينها، يعودون كل مرة إلى مرْبى الطفولة، فيسألون بتواضع المتجاهلين: "أين هي الدولة؟". هكذا، تمرَّس الحزب على الدهشة، ووجد من بين المؤمنين به من يدفعها دفعاً، تلك الدهشة، فيجيب بسؤال المؤمن: "وما علاقة حزب الله بالدولة؟ اذهبوا إلى الدولة".
فليس سراً أن حزب الله منتشر في جميع مؤسسات الدولة. له وزراء ونواب ورجال في البلديات، ورئيس الجمهورية تحت وصايته. وهو يتشارك مع زعماء الطوائف الأخرى في كل "أنشطة" هذه "الدولة": في المحاصصة، في الزبائنية، في الصفقات والفساد، الصريح منه، والذكي. هذا الأخير، أي الفساد، يداريه الحزب بخطابٍ عالي النبرة ضد الفساد؛ دائما فساد الآخرين، الخصوم. والحزب، فوق ذلك، هو المساهِم الأول في تدمير الدولة بمنطقها وقانونها وسيادتها على أرضها. عن طريق خلق دويلة أقوى من "الدولة". بل تتعاظم قدرات الدويلة، وصواريخها العابرة للمسافات، كلما خالفت قانون الدولة. دويلة وصلت أمجادها إلى اليمن وسورية والعراق. دويلة تخدم دولة أخرى، من دون مواربةٍ ولا تقية. وهي الدويلة التي تجعل حزب الله أقوى الأحزاب، المتحكِّم بقرار الدولة، باسم مصالح، ليست هي مصالح هذه "الدولة". وبعد ذلك، يسألونك: "أين هي الدولة؟".
أيهما المأساة، أيهما المهزلة؟ واضح أنه يصعب الفصل. حاولتُ ولم أفلح. في قلب المأساة نفسها، أجد مهزلة. كما العكس: مهزلة في قلب مأساة. والسؤال استعرته من جملةٍ في رواية إميل حبيبي الأشهر "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل". ولا تسمح العجالة هنا بالمقارنة بين مأساة بطل هذه الرواية، سعيد، الواعي لعدوه، ومأساة الجماهير المؤمنة بحزب الله. والحق يُقال إن سعيد، أو إميل حبيبي، عاش زمناً آخر...