دافني غاليزيا.. رحيل قلم جريء

دافني غاليزيا.. رحيل قلم جريء

27 أكتوبر 2017

زهور وصورة لدافني في مالطا (19/10/2017/فرانس برس)

+ الخط -
"أينما تُولّي وجهك تجد الأوغاد.. واقع ميؤوس منه حقّاً..". كانت تلك آخر الكلمات التي خطّها قلم الصّحافية المالطية، الاستقصائية، الجريئة دافني كاروانا غاليزيا (53 عاماً) قبل أن يتمّ اغتيالها بعبوة ناسفة، زُرعت بسيّارتها يوم 16 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. وأنت تتابع سيرة المرأة، تتبيّن أنّك إزاء مدوِّنة وكاتبة عظيمة، عشقت مهنة المتاعب، وتركت اختصاصها الأصلي (علم الآثار) لتحفر في سيرة أعلام السياسة ورجال الأعمال وأصحاب القرار في بلادها وفي العالَم، ولتسبر أغوار ملفّاتٍ شائكةٍ كثيرة، في مقدّمتها ملفّات الفساد وتبييض الأموال، واستغلال النفوذ وإهدار المال العام، فتصدّرت بذلك مشهد الصحافة الاستقصائية في مالطا وأوروبا، حتّى وصفتها مجلّة بوليتيكو الأميركية بأنّها "إمرأة ويكيليكس"، وأنّها "من بين 28 شخصية مؤثّرة لفتت انتباه الأوروبيين بتقاريرها المميّزة". وتنقّلت دافني غاليزيا، منذ بداية مشوارها الإعلامي في 1987، بين منابر تعبيرية مختلفة، فكانت كاتبة عمود في صحف مالطية شهيرة، منها "صانداي تايمز أوف مالطا" و"مالطا إندبندنت". وأبدعت في مجال الصحافة الإلكترونية والتدوين الرّقمي من خلال مدوَّنتها "تعاليق متداولة" التي ملأت الدنيا وشغلت النّاس، لمواكبتها بالتحليل والاستقصاء والنقد مستجدّات الشارع المالطي، وتطوّرات المشهد السياسي الدّولي، وذهبت صحيفة الغارديان البريطانية إلى أنّ "قُرّاء مدوَّنة دافني غاليزيا أكثر عدداً من جميع قُرّاء الصحف الورقية في مالطا".
ويفسّر الإقبال المتزايد على قراءة منشوراتها بحرفيّتها الصحافية العالية، وقدرتها على الكتابة 
بلغة سلسة، مُعبّرة وهادفة، ولجرأتها على كشف المستور والحديث في المسكوت عنه، فهي لا تخشى انتهاك "التابو"، ولا تتردّد في نقد عِلية القوم، وفضح شُبهات الفساد التي يرتكبها كبار المسؤولين في بلادها. ونبّهت في اشتغالها على "أوراق بنما" إلى وجود شُبهات فساد مالي (تهرّب ضريبي، تحويلات مصرفية مشبوهة، رِشى..).تحوم حول مُتنفّذين في هرم السلطة، من بينهم رئيس الوزراء المالطي، جوزيف مُسكات، وزوجته، ورئيس الأركان، كيت شمبري، وغيرهم. وقد أثارت تقارير دافني في مكافحة الفساد الرّأي العام الدّاخلي والعالمي، ودفعت كثيرين من المشتبه بهم إلى المحاكم. ومثّلت كتاباتها قادحاً لتشديد الرّقابة، وتكريس الشفافية، ومساءلة متّهمين ومعاقبتهم. وعلى الرغم مما تعرّضت له من تهديدات ومضايقات وملاحقات أمنية وقضائية، فإنّها رفضت كَسر قلمها، واعتزال صحافة الاستقصاء والاستسلام لإغراء المفسدين أو وعيدهم، وبدت جادّة في مزاولة حقّها في البحث والتفكير والتعبير، حريصة على أن تكون ضمير المجتمع الحيّ، وصوت الحقيقة الذي يأبى السكوت والارتهان للوبيات المال والسياسة. فكانت، إذ تكتب ما تكتب، ترسم لها صورة إعلامية مقتدرة، مسؤولة وملتزمة، تنتمي إلى القرّاء، وتُحاور همومهم وأحلامهم ومشاغلهم، وتبذل الجهد في خدمة الصّالح العام، والدفاع عن حقّ الناس في النفاذ إلى المعلومة وكشف الحقيقة. وكلّفها ذلك أنها وضعت حياتها على كفّيها، وهي تقتحم قلاع الجريمة المنظّمة، وتفكّ ألغازها وتفضح المتورّطين فيها. فبعد أن نجت من محاولة اغتيال سنة 1995، وأخرى سنة 2005، وجدت نفسها، هذه المرّة، في مرمى أعداء الحقيقة، ففاضت روحها وعمّدت بدم النّضال قلمها. وأثار مقتلها موجة استياء وتنديد وتعاطف عارمة، عمّت العالَم وشبكات التواصل الاجتماعي، أين لوّن كثيرون صفحاتهم بصورها، وأقوالها، وكتبوا "أنا دافني" تعبيراً عن إعجابهم بها، وتضامنهم مع أسرتها ومُريديها.
وصرّح رئيس وزراء مالطا: "يُدرك الجميع أنّ دافني كاروانا غاليزيا كانت ناقدة قاسية لي 
بصورة شخصيّة وسياسية. ولكن، لا يُمكن لأيّ أحد أن يُبرّر هذا العمل الهمجي بأيّ شكل". وفي سياق متّصل، اعتبر زعيم المعارضة المالطية، أدريان ديليا، اغتيال دافني "ضربة قاصمة للديمقراطية وحرّية التعبير في البلاد". وذهب رئيس البرلمان الأوروبي، أنطونيو طاجاني، "ما حصل نهاية تراجيدية لصحافية نذرت روحها لأجل الحقيقة"، فيما رصد موقع ويكيليكس الذي يُشرف عليه الأسترالي جوليان أسانج عشرين ألف يورو لكلّ من يُدلي بمعلوماتٍ من شأنها أن تؤدّي إلى القبض على مَن ارتكب تلك الجريمة النكراء.
نجح الأوغاد في كتم صوت دافني غاليزيا، ووضعوا بالقوّة حدّاً لحياتها. لكنّ روحها وأفكارها وجرأتها وكلماتها ستظلّ تُلهم الجيل الصّاعد من الصّحافيين الشباب، والإعلاميين المولعين بفنّ الاستقصاء، وستبقى محامل تقاريرها مفاتيح مهمّة للكشف عن الحقيقة، وإدانة المفسدين. وقبل هذا وبعده "سيبقى الصحافي الشخص الأخير الذي يظلّ واقفاً، مثابراً، مناصراً للحقّ، ما يجعله أوّل شخص يُترك ليموت"، كما حدّث ماثيو غاليزيا، نجل الصحافية الألمعية الراحلة.
مَن قتل دافني غاليزيا؟ حتّى متى يدفع إعلاميون حياتهم ثمن الكشف عن الحقيقة؟ متى يتمّ توفير ضمانات أمنيةٍ وقانونيةٍ لحماية المشتغلين بصحافة الاستقصاء؟ متى تُصدر الأمم المتّحدة الإعلان العالمي لحماية الصحافيين؟ أسئلة مازالت الإجابة عليها معلّقة.

دلالات

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.