عن القُبلة والسياسة في تونس

عن القُبلة والسياسة في تونس

13 أكتوبر 2017

حمة الهمامي وزوجته راضية النصراوي

+ الخط -
لم يهدأ ضجيجها بعد، ولم تمّح صور (وآثار) قبلة زعيم الجبهة الشعبية حمة الهمامي وزوجته راضية النصراوي احتفاءً بإقلاعها عن إضراب الجوع الذي دام زمناً غير قصير، تنديداً برفع الحماية الأمنية الرئاسية عن زوجها وتضامناً معه، لم تمّح من الفضاء العام التونسي، مثيرة ردود أفعال الطبقة السياسية والإعلامية والأوساط الشعبية، حتى طفحت على السطح قضية الشاب الفرنسي من أصل جزائري المقيم في مدينة مرسيليا الفرنسية الذي مسكه رجال الأمن، وهو يقبّل صديقته في منطقة قمُرت السياحية في ضاحية تونس الشمالية، ما أدى إلى إيقافه ومحاكمته، والحكم عليه أربعة أشهر ونصف الشهر سجناً نافذة، ونالت الفتاة ثلاثة أشهر، بعد اتهامهما بالاعتداء على الأخلاق الحميدة، والمجاهرة بالفاحشة، وهضم جانب موظف عمومي. وتقدم الناطق الرسمي باسم النيابة العمومية في تونس برواية ثانية، مفادها بأن الأمن التونسي أوقف الشاب الفرنسي وصديقته التونسية وهما بصدد ممارسة الجنس في سيارة في الطريق العام، بما ينافي الحياء ويشيع الفاحشة.
ولا يعنينا في كل الأحوال التجاذب في الآراء وتأويل التشريعات والقوانين المعمول بها بين طرفي العدالة التونسية، أي النيابة العمومية والقضاء من ناحية ومحامي المتهم من ناحية أخرى، فلكل مبرراته وخلفيات مواقفه المنبثقة من مصلحته وتمثله القانون. كما لا يهتم هذا المقال كثيراً بالروايات المختلفة للبوليس التونسي الذي اعتبر الشاب الفرنكو- جزائري مذنباً مرّتين، الأولى عندما تم ضبطه وهو يرتكب الفاحشة في الطريق العام، والثانية وهو يلقي بجواز سفره الفرنسي على وجه عون الأمن، معتزاً بهويته الفرنسية التي تتعالى وفق تمثله عن أي تتبع أمني أو قضائي حسب الرواية الرسمية. وبرواية المحكوم عليه الذي روّج أن الأمر لا يتجاوز تقبيل صديقته التونسية، وهذا يدخل في نطاق حريته الشخصية، قبل أن يُحرّر في شأنه محضر أمني وقّع عليه من دون أن يفقه كنهه، لأنه حُرّر بالعربية التي لا يتقنها قراءة وكتابة، ومن دون أن يمكّن من محاميه، كما هو منصوص عليه بالقانون التونسي، ما أدى إلى إيقافه والحكم عليه بالسجن.
ما يعنينا هو تحول مسألة شخصية لمواطن ليس له أي علاقة بالشأن العام وقضاياه، أو أي
صفة سياسية أو رسمية، إلى قضية رأي عام انتصبت لأجلها البلاتوهات التلفزيونية، وحبّرت حولها المقالات في كل الصحف اليومية والأسبوعية، وتداعت حيثياتها وتفاصيلها الحميمية والسريّة في المدونات والمواقع الافتراضية، حتى استحالت شأناً علنياً، يتداوله الناس في ميعادهم واجتماعاتهم ومنتدياتهم.
ولم يقتصر هذا الأمر على المشهد الاتصالي والصحافي التونسي، وإنما برز بصفة لافتة في الصحافة الفرنسية، فتصدّر صفحاتها الأولى، وعمّ الخبر النشرات الإخبارية والمواقع الإلكترونية الفرنسية التي تحدثت عن القُبلة التي استحالت مأساة وتراجيديا في تونس، بلد الثورة والحرية والحقوق الإنسانية، وذلك قبل أن يلتحق السفير الفرنسي في تونس بجمهور الذين أدلوا بدلوهم في هذه القضية، مستقبلاً والدة الشاب الفرنسي- الجزائري التي جاءته طالبة الدفاع عن ابنها صاحب الجنسية الفرنسية، لكنه اكتفى بالقول إنه يثق بالقضاء التونسي، وهو قول لا يخلو من دبلوماسية، فوراء الأكمة وسائل كثيرة للتأثير في المواقف السياسية واستئناف الأحكام القضائية وتعقيبها.
حطت قضية الشاب الفرنسي الرحال في ديار الطبقة السياسية التونسية والمدنية التي لم يتأخر بعض مكوناتها في استثمار الحدث، وترويجه والتنديد بالممارسات الأمنية التي عُدت استرجاعاً لقاموس أمني قديم كان سائداً زمن حكم الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي، والأحكام الصادرة عن القضاء الذي اعتمد فقط على ما جاء في محاضر البوليس، من دون أن يأخذ بالاعتبار الإخلالات الشكلية من قبيل عدم وجود المحامي لحظة الاستنطاق وغياب المترجم لجهل المتهم بالعربية.
في هذا السياق، انتشرت صور القبلات على مواقع الإنترنت، قبلات السياسيين مع زوجاتهم تحدياً لحكم المحكمة، ودفاعاً عن حق التقبيل في الفضاء العام، وحتى إقامة مهرجان للقُبل كما دعت إلى ذلك الجامعية رجاء بن سلامة، والبحث عن المبرّرات القانونية والسياسية والحقوقية والأخلاقية لما بات يعرف بالحق في القُبلة. ومن الأمثلة البارزة التدوينة المتضمنة صورته وهو يقبّل زوجته، التي نشرها النائب عن حزب نداء تونس وكتلة الحرة سابقاً المستقلّ حالياً عبد الرؤوف الماي، والتي يتوجه فيها إلى رئيس الدولة قائلاً بالعامية التونسية "سيدي الرئيس هاي بوسة EN PUBLIC….، وللتذكير أنا متنازل على الحصانة البرلمانية … بالله قولوا لي في أي مركز شرطة نسلم نفسي باش يتم إيقافي". وصورة وزير الاتصالات التونسي السابق، نعمان الفهري، في لحظة تقبيل رومانسية زوجته على شاطئ البحر، وفي أثناء غروب الشمس، كما لم يتأخر عن استثمار الحدث عضو هيئة الحقيقة والكرامة، عادل المعيزي، الذي نشر صورة يقبّل فيها زوجته. ولكن الصورة التي انتشرت أكثر من غيرها بين المدونين والفيسبوكيين هي صورة الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، وهو يقبّل زوجته وسيلة بن عمار التي ارتبط بها عاطفياً وسرياً على مدى عشرين سنة، قبل أن يتزوجها. وعلى الرغم من زواجها من رجل آخر طوال تلك الفترة. والمسكوت عنه في تداول هذه الصورة هو الاستنجاد الرمزي ببورقيبة الذي تُسند إليه المكاسب التي تحققت للمرأة التونسية المعاصرة، لاسيما في مجال الحريات الفردية والأحوال الشخصية.
تغاضت الحكومة ورئاسة الجمهورية التونسية عن قضية الشاب الفرنسي، واعتبرتا أن الأمر
يتعلق بمهام سلطة ثانية، هي السلطة القضائية المستقلّة عن السلطة التنفيذية، على الرغم من أن بداية القضية تعود إلى الأمن التونسي، بوصفه جهازاً مرجع نظره وزارة الداخلية التي تتبع السلطة التنفيذية، بما يفيد انزعاج هذه السلطة، ووقوعها تحت الإحراج الداخلي والخارجي، وهي التي تتغنى بالمساواة بين المرأة والرجل التي ستمسح الأيام اللاحقة قضية جدالية خطيرة هي المساواة في الميراث، وتفتخر بإلغاء الأمر الذي يمنع التونسية من الزواج بأجنبي إلا متى أعلن إسلامه.
قضية الشاب الفرنسي من أصل جزائري وصديقته التونسية هي مثال للاستثمار السياسي الصارخ للقضايا الخاصة للناس وشؤونهم الشخصية، فالسياسة في تونس وزواجها بالإعلام أفسدا على الناس حياتهم، ولوث صفاءها ونقاوتها، وحولها إلى مجال للاتجار وتحقيق المنفعة. إنها البراغماتية السياسية التي تستحيل انتهازية مكشوفة. فكم من قضايا هي أولى بالإثارة والاهتمام والمعالجة، من قبيل ما ينتظر التونسيين من آلام، مصدرها قانون المالية للسنة المقبلة الذي سيزيدهم تفقيراً ومعاناة وإجحافاً ضريبياً، ومن قبيل ظاهرة الهجرة السرية والموت الجماعي للشباب التونسي في البحر المتوسط، بحثاً عن النجاة في الخارج الأوروبي، وهروباً من محرقة الداخل الوطني. ولكن أجندات الساسة والإعلاميين اختارت القضية الشخصية للشاب الفرنسي- الجزائري، لما تدرّه من أرباح سياسية ورمزية، وحتى مادية في علاقة بالمشروع الليبرالي الفردي الحقوقي الكوني الذي يتبناه الاتحاد الأوروبي أيديولوجيا جديدة لتسيير العالم ومراقبته، في حين أن غير ذلك من القضايا قد لا تكون لها ربحية ومنفعة وريع، على الرغم من التصاقها وارتباطها بحياة الناس.