أَوَّلِياتٌ في فَنَّ التحليل السياسي

أَوَّلِياتٌ في فَنَّ التحليل السياسي

27 يناير 2017

(محمود بوشيبة)

+ الخط -
لعلَّ الدين والسياسة هما أكثر فضائين مشاعَيْنِ، يدلي فيهما كل من هَبَّ وَدَبَّ برأيه. فبالنسبة لكثيرين، يكفيهم أن يكونوا قد قرأوا كتاباً أو مقالاً أو شاهدوا خبراً أو سمعوا رأياً في مسألةٍ، ليتحولوا هم أنفسهم خبراء فيها، لا مجرد ناقلين ما قرأوا وشاهدوا وسمعوا. ومن هنا، فإن كثيرين ممن تطرفوا دينياً هم من أصحاب العقول البليدة والفهم الضحل، ممن عجزوا عن ربط المقدمات بالنتائج والأَوَّلِياتِ بالمآلات. كذلك الحال في موضوع التحليل السياسي، فكثيرون يخلطون بين استيعاب مسألةٍ وسياقاتها والعوامل المؤثرة فيها وأبعادها وتداعياتها، وما بين تكوين رأي فيها وحولها. إنه خلطٌ بين الرأي والموقف وبين الاستيعاب والإدراك. صحيحٌ أنه ليس مطلوباً من كل شخصٍ أن يكون عالماً دينياً أو محللاً سياسياً، لكن الأهم من ذلك ضرورة أن يستوعب الجميع أن تحقيق مرتبة العلم والوصول إلى مستوى المحلل السياسي لا يتم بالتعدّي على مجاليهما، بقدر ما أنه يكون عبر عملية دراسةٍ وإعدادٍ مضنيين، وامتلاك الأدوات اللازمة.
أيضاً، ضمن السياق نفسه، ليس كل صاحب رأي عالماً دينياً أو محللاً سياسياً، فكثيرون من أصحاب الرأي ينطلقون من تَحَيُّزاتٍ وقناعات مسبقة، لم تخضع بالضرورة للفحص الجاد. داعي هذا الكلام أنك كثيراً ما تقرأ لِكُتابٍ معروفين ينطلقون من قناعاتٍ شكلوها عبر السنين، ولا تكاد تعرف كيف وصلوا إليها، ومن ثَمَّ ينطلقون في تحليل ظواهر معقدة، بناءً على تلك القناعات والتَحَيُّزاتِ الشخصية والفكرية. إنها "الحكمة السائدة" أحياناً التي تقوم مقام الحقيقة والمعلومة الدقيقة، وإذا ما حاولت تحدّيها، أي تلك "الحكمة السائدة"، فإنك تجدُ نفسك متهما، أنت نفسك، بالتحيز، وإنكار المعلوم بالضرورة!
لا يهدف هذا المقال إلى التفصيل في فن التحليل السياسي، فهذا أكبر من أن يستوعبه مقالٌ 
محدود المساحة، كما أن الموضوع أعقد من أن يُعالج في مقالٍ أو جملة مقالات. الهدف هنا هو التنبيه إلى جملةٍ من الأَوَّلِياتِ الضرورية، أو المبادئ الأساسية التي ينبغي مراعاتها في عملية التحليل السياسي.
أول الأَوَّلِياتِ أو الضروريات في عملية التحليل السياسي أن يكون المرء مستوعباً للمسألة التي يريد تحليلها، عارفا بخلفياتها، وسياقاتها، وعناصرها، والقوى الفاعلة فيها. وبالتالي، لا يكفي أن يكون المرء مطلعا على مسألة، وإنما مستوعبا تمام الاستيعاب لها. وَأُذَكِّرُ مرة أخرى إنني أتحدث في سياق التخصص، وليس في سياق إبداء الرأي أو أخذ موقف.
ثاني الأَوَّلِياتِ أو الضروريات في عملية التحليل السياسي أنه يقوم على معلوماتٍ دقيقةٍ ومؤكدةٍ من مصادر معتبرة وموثوقة. للأسف، فإن واحدة من أكبر مشكلاتنا أن تيارات وأحزاباً وشخصيات اعتبارية كثيرة، بل وحتى مسؤولين، يبنون آراء ويتخذون مواقف، بناء على انطباعاتٍ تتشكل لديهم، أو "معلومات" غير مؤكدة توفرت لهم، أو على أساس "الحكمة السائدة"، أو ما تعارف عليه الناس أو مدرسة إيديولوجية معينة ضمن نسق التَحَيُّزِ والقوالب الجاهزة التي تصبح عصيةً على المساءلة والتحرّي.
ثالث الأَوَّلِياتِ أو الضروريات أن التحليل السياسي لا ينبغي أبدا أن يقوم على أساس القناعات والتَحَيُّزاتِ الإيديولوجية. فمثلا، تجد إسلاميين يقاربون مسائل كثيرة ضمن نسقية "المُقَدَّسِ" و"صراع الحق والباطل"، وجدلية البلاء والمحنة. في حين تجد ليبراليين مسكونين بإيديولوجيا تسفيه كل من يخالفهم، ومحاولة هدم كل قيمةٍ لا تخضع لسيولة منظومتهم التي تقوم مقام "المُقَدَّسِ". وكذلك الحال بالنسبة ليساريين كثيرين تحكم أنماط تفكيرهم قوالب فكرية جامدة وثنائيات تضادية جدلية، وتفسير ظواهر كثيرة بالمؤامرة الإمبريالية. ليست الأحكام القِيمِيَّةُ تحليلا سياسيا موضوعيا.
تقودني النقطة الأخيرة إلى رابع الأَوَّلِياتِ أو الضروريات في التحليل السياسي، إذ إنك في 
التحليل السياسي تتعامل مع الحقيقة كما هي، لا كما تتمناها أو تريدها، أو حتى تتوهمها. وأعود وأذكر، مرة أخرى، أن التحليل السياسي يقوم على فهم خلفيات الظاهرة وسياقاتها وعناصرها، والأطراف الفاعلة فيها. إذ لا تتحرك غالب المسائل في فراغ، ولا تكون معزولةً خارج إطار موضوعي يَنْظُمُها.
تبقى مسألتان. الأولى، أنه ينبغي أن ندرك أن ثمة فارقا بين الموضوعية والحيادية في دراسة أي مسألة. قد تكون الحيادية حالة سلبية، ذلك أنها قد تمنع المرء من أخذ موقفٍ قد يكون الصحيح. أما الموضوعية فهي حالة إيجابية، ذلك أنها تقود إلى تشكيل رأي، أو إلى أخذ موقف ضروري، بناء على معطيات سليمة ورصينة. أما الثانية، فهي ضرورة التفريق بين التحليل السياسي والعمل السياسي. فالأول مجاله موضوعي، وقد يكون أكاديميا إلى حد كبير، أما الثاني، فإن مجاله تنافسي واقعي، ولا يخضع لقواعد الموضوعية والأخلاقية والأكاديمية بالضرورة. إنهما فضاءان منفصلان، ولكل أهله، وأدواته. المشكلة أن كثيرين يخلطون بينهما، فتجد بعضهم يمارس التحريض والتشويه السياسي والفكري لخصومه، بزعم أنه يقدم تحليلا موضوعيا بناء على أسس علمية، وهو أبعد ما يكون عنه.