التعسف في تَكْييفِ "النص المقدس"

التعسف في تَكْييفِ "النص المقدس"

17 ابريل 2015
+ الخط -
لعله من نافلة القول إن التيارات الإسلامية المتطرفة اليوم، كتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، ترتكز، إلى حد كبير، على منظومة فقهية متشنجة، ولكن، لها جذورها في التراثين، الفقهي والمسلكي، الإسلاميين، تاريخياً، غير أن في محاولة اختزال ظاهرة هذه التيارات في المعطى السابق إخلال كبير، منهجياً وموضوعياً. كما أن محاولة حصرها بالفضاء الإسلامي أمر تنقصه المصداقية. ومن ذلك، مثلا، محاولات بعض الكتاب الغربيين والعرب ابتسار ظاهرة "داعش" في "أحاديث آخر الزمان"، كحديث مسلم عن نزول "الروم في الأعماق أو بدابق" قبل قيام الساعة.
لا تهدف هذه السطور إلى مناقشة "أحاديث الفتن" و"الملاحم" و"آخر الزمان"، والخلاف حول تواترها، أو محاولات بعض أهل فروع العلم الشرعي تأويلها، فهذا مما لا يدخل في سياق المقال، ولا هو مجال تخصص الكاتب. كما أن هذا المقال لا يسعى، بحال، إلى نفي الدور المرجعي الذي تشكله تلك الأحاديث في الإيديولوجيا الكلية لتنظيم ك ـ"داعش"، صحت كل تلك الأحاديث أم لا. أيضا، ليست غاية المقال نقض ممارسات "داعش"، إسلاميا، ومن داخل النص الديني نفسه الذي يوظفونه، تعسفاً، في تبرير جملة من أفعالهم الشنيعة، كقطع الرؤوس، وتكفير الناس، وسبي واسترقاق النساء والأطفال. فهذا موضوع آخر، وله أهله الأكفأ مني لسبر أغواره وفكفكة تشابكات التاريخي والنصي فيه.
يحاول المقال فهم ذلك التفاعل، والتأثير المتبادل، ما بين المنظومة المرجعية التي يؤمن بها أولئك المتشددون وما بين معطيات الواقع. بمعنى من ينتج من؟ أهو الواقع المُرُّ الذي تعيشه الأمة الإسلامية، وبالتالي، فهو يُكَيِّفُ فهمهم النصوص ومنهجية إسقاطها على هذا الواقع؟ أم أن فهمهم تلك النصوص واستيعابهم لها هو ما يدفعهم إلى محاولة تكييف هذا الواقع، ضمن سياقها بشكل متعسف؟
لا شك في أن السؤال أعلاه شديد التعقيد، ولا شك أنه لا توجد إجابة شافية وافية له، غير أن هذا لا يمنع من المحاولة وطرق هذا الباب.
وعودة هنا إلى الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه: "لا تقوم الساعة، حتى ينزل الروم بالأعماق، أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبقوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله، لا نخلي بينكم وبين إخواننا. فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً، فيفتحون قسطنطينية..". "الأعماق"، بحسب مختصين، منطقة تقع في أنطاكية التركية، في لواء الإسكندرون الذي تطالب به سورية، في حين أن دابق بلدة سورية في ريف حلب.
هذا الحديث، مثلا، مركزي في إيديولوجيا "داعش" اليوم، وضاعف من مركزيته بالنسبة لهم، سيطرتهم، العام الماضي، على دابق، ثم إعلان الولايات المتحدة، ضمن حلف غربي بالدرجة الأولى، وبدعم عربي، حرباً على التنظيم، لتترسخ قناعتهم، أكثر فأكثر، بأن الحديث يتحقق عمليا اليوم. فأميركا وحلفاؤها هم الروم، حسب هذه المقاربة، و"داعش" ترتجي القوات الأميركية البرية. بل إن أحد أهم الأذرع الإعلامية الإلكترونية للتنظيم اسمها "دابق"، في إحالة رمزية كبيرة وواعية، عبر عنها منظرو التنظيم ومقاتلوه، غير مرة، من أنهم يرجون أن يكونوا هم ذلك الثلث الذي "سَيَفْتَحُ" القسطنطينية، أي إسطنبول اليوم في تركيا. ومع أن القسطنطينية عملياً قد فُتِحَتْ إسلاميا، في القرن الخامس عشر الميلادي، على يدي السلطان العثماني، محمد الفاتح، فإن "داعش" وأنصارها لا يعدمون تسويغاً للمسألة. فاستناداً إلى فهمهم، فإن نظام الحكم في تركيا اليوم "كافر"، وبالتالي، أخذ القسطنطينية منه فتح إسلامي!
غير أن العناصر التي تتشكل منها "داعش" اليوم، ما كان لهم، أبداً، أن يفكروا في الدفع بالأحداث، للوصول إلى "آخر الزمان"، لو لم تَفْسَحْ لهم معطيات الواقع الطريق واسعاً. فإجرام النظام السوري بحق شعبه، وقمعه ثورته، وخذلان الآخرين لها، هو ما مهد الطريق إلى الفوضى في سورية، والتي تسربت منها "داعش"، وغيرها من الأصابع الأجنبية. بل، وأبعد من ذلك، لو لم يكن العالمان، العربي والإسلامي، يعانيان داخليا، من القمع والكبت والاستبداد والتخلف وجرح الكرامة، وخارجياً من العدوان ونهب الثروات والاحتلال، لما كان هنالك "قاعدة" ولا "داعش" أصلا.
قد يقول بعضهم إن التطرف الفكري والديني لم يرتبطا تاريخياً، وحسب، بالاستبداد والعدوان، وهذا صحيح. فثمة تطرف قد تنحصر جذوره في الصفات الشخصية، أو المجتمعية، أو ضيق الأفق، أو طبيعة البيئة المحيطة، غير أن تاريخنا، أيضا، لم يشهد تيارات تحاول أن تقرع "أبواب القيامة" بالكثافة التي نراها، اليوم، باسم "النص المقدس"، على الرغم من أن الحديث النبوي السابق، وغيره من الأحاديث، كانت موجودة ومعروفة، وعلى الرغم من أن الأعماق ودابق معروفتان مكانيا منذ القدم، بل وشهدتا حروبا بين المسلمين والروم، وبين المسلمين أنفسهم، كما في الصدام العثماني-المملوكي الفاصل في دابق نفسها.
 
هنا، ينبغي التذكير بأن الرؤية الغيبية لنهاية العالم، ومحاولة "استدعاء القيامة"، ليست حكراً على بعض القراءات الإسلامية، بل إننا نجد لها جذوراً، خصوصاً في اليهودية والمسيحية عبر ما يسمى "عقيدة الهرمجدون". و"هرمجدون" كلمة عبرية من مقطعين، هر: وتعني تلة، ومجدون: منطقة تقع في مرج ابن عامر في فلسطين. وحسب العهدين، القديم والجديد، ستقع معركة في ذلك المكان، سينتج عنها نزول المسيح وهزيمة الأعداء. طبعا، لكل من اليهود والمسيحيين تصورهم الخاص عن هوية المسيح، وفي صف من سيكون.
غير أن الأهم، هنا، أن "المسيحية الصهيونية" وتيار "الإنجيليين"، وهم المحافظون البروتستانت، كَيَّفوا "عقيدة الهرمجدون"، والتي عمرها قرون طويلة، في ضوء حقيقة وجود دولة يهودية قائمة في فلسطين، فأنزلوا النص من تجريده إلى أرض الواقع. وهكذا، تعتقد غالبيتهم العظمى أن المسيح لن يعود في "آخر الزمان"، إلا بعد هزيمة أعداء "بني إسرائيل"، والذين تمَّ تعريفهم، ضمن معطيات واقع وجود إسرائيل، بالعرب والمسلمين. وعند نزول المسيح والتخلص من أعداء "بني إسرائيل"، تفترق القراءتان "المسيحية الصهيونية" و"الإنجيلية" من ناحية، والصهيونية اليهودية من ناحية أخرى، حسب اختلاف المرجعيتين الدينيتين، ومن سيكون المنتصر النهائي، ومن سيكون المهزوم بينهما. وحسب معتقدات بعض هؤلاء، ستكون المعركة الفاصلة نووية، وهذا أيضا، تكييف للنص، وإخراجٌ له من تجريده وتنزيله، بناء على معطيات واقع اليوم.
بل إن قادة التيار الإنجيلي في الولايات المتحدة، كبيلي غراهام، وجيري فالويل، وبات روبنسون، عارضوا عملية التسوية الفلسطينية-الإسرائيلية، وانسحاب إسرائيل من أي أراض فلسطينية، بدعوى أنها تخالف مشيئة الرب، وتؤخر معركة "آخر الزمان". وهم في ذلك أقرب إلى مواقف اليمين اليهودي الديني المتطرف، والذي يريد أن يهدم المسجد الأقصى، ويقيم الهيكل على أنقاضه، ليستدعي "الهرمجدون"، ويعجل بنزول المسيح. ولعله من المهم الإشارة، هنا، إلى أن الرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغان، كان يؤمن بـ"أننا قد نكون الجيل الذي يشهد معركة الهرمجدون"، كما أن سياسيين أميركيين كثيرين يبنون مواقفهم على مثل هذه القناعات الدينية، وهذا موضوع آخر.
إذن، محاولة اختزال التطرف الفكري والديني في عَسَفِ قراءة وفهم "النص المقدس"، فحسب، يشكل خللا منهجيا، لا تدعمه الحقائق، دائما. كما أن محاولة حصر القراءات المتعسفة والمتطرفة لـ"آخر الزمان" ببعض التيارات الإسلامية، أمر تنقصه الموضوعية والأمانة.





دلالات