انتحار طبال

انتحار طبال

17 يناير 2017
+ الخط -
فارق كبير بين مفردات اللغة الراقية وكلمات اللغة الدارجة. وعلى الرغم من هذه الهوة السحيقة وتلك الفجوة العميقة، إلا أن من يتمسح بمفردات العربية الفصحى لا يجد مفرا من استخدام الدارج المبتذل، لأنه أكثر تعبيراً عن المعنى وإبرازاً للمغزى.
لا تشير مفردة طبال هنا إلى ضابط الإيقاع وقارع الطبلة، وإنما تشي بالمنافق شديد النفعية الذي يضع لحن النفاق وإيقاع المداهنة، ويكون ركناً أساسياً في وصلة الكذب وسيمفونية التضليل. وبما أن كل عمل يتم إتقانه بالتدريب والمراس، فإن الطبال يتفوق بكثرة الحفلات، والطلب المتزايد على عزفه المنفرد، والإقبال المتزايد على نقره وقرعه.
إذا كان النفاق عاماً في قطاعات كثيرة ومجالات عديدة قد تشمل أوجه النشاط الإنساني والسلوك البشري، إلا أن هذا المقال يعتني بمجال محدد، هو عالم الإعلام الذي يحفل بمختلف فنون الطبل وإبداعات الزمر، والطبال هو ذلك الإعلامي قارع الطبل، ماسك الصاجات، الراقص "على واحدة ونص"، كما نقول في مصر.
هل باب التوبة مفتوح أمام الطبال؟ بالقطع، مفتوح للكل في كل وقت وحين ومكان، غير أن ذلك مشروط بالتخلي عن الطبلة، والندم على قرعها، والعزم على عدم العودة إليها، وترك الصاجات نهائياً، وذلك أمر ليس سهلاً ولا هيناً، لمن قضى عمره وأفنى حياته معها وبها ومن أجلها.
دعونا نسرح بالخيال ونسأل: ماذا لو تخلى الطبال عن طبلته؟
ستتبدل أوضاعه، وتنقلب أحواله، وتختفي أخباره، وتنزوي علاقاته، وتذبل صداقاته، وقد تنفضح أسراره، وتنكشف سوءاته.
قد يندم، حيث لا ينفع الندم، وقد يتعرّض لمعاتبة الأولاد ومعايرة الزوجات، وهجر الخليلات، وربما يهتف في أعماقه: ماذا صنعت في نفسي؟ أين كان عقلي وحدسي وظني؟
سيهب فقهاء السلطان لتقريعه وتأنيبه واتهامه بارتكاب الجرم، واقتراف المعصية والإقدام على المنكر، لأنه أضرّ نفسه، ومعلوم أنه لا ضرر ولا ضرار. لقد أطفأ المتهوّر قنديل أسرته بيديه المتسرعتين، أي أنه انتحر متعمداً مضيعاً عياله وحاله، مع أن الضرورات تبيح المحظورات، ودفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وكفى بالطبال إثماً أن يضيع ما يعول.
هل توقف الطبال يجعله في منأىً عن الأخطار والعواقب الوخيمة والشرور الأليمة؟
هذا يحتاج إلى كبير تدبر وعميق تفكير وكثرة تمعن، ذلك أن المسألة شائكة، والنتائج قد تكون سوداء حالكة لا يقوم بالتصدّي لها الفقهاء فقط، بل يزاحمهم فيها الفلاسفة والحكماء وعلماء الاقتصاد والاجتماع وجنرالات الملفات والسي ديهات، وقد يطاول الأمر شخصياتٍ أو سيدات أو بنات لسن فوق مستوى الشبهات.
الأمر دقيق وقد يختلط فيه السمن بالدقيق، والثمين بالركيك، وهو ما سيحاربه كل متورط شريك. هل عزوف الطبال وإنزواؤه في ظل تلك البيئة المشبوهة والظروف المذكورة يعد توبةً نصوحاً أم محض انتحار؟
هل كتب عليه، وعلى بنيه من بعده، امتلاك طبلته والحفاظ عليها، لأنها مورد الرزق ومبعث النور وموقد الدفء، ومشكاة الضياء، ودليل البراءة، وصك الرخاء، وعنوان الوفاء، وحصان العطاء، وحصن الاحتماء، ورمز الكبرياء.
هل يستطيع التخلص من هذا البلاء، ويتنصل من الولاء، ويترك الهراء، أم أنه سيتريث ويطيل التريث، محتمياً بطول الأمل، حتى يدفنوه في الخلاء، لأن المثل الشعبي يقول: يموت الطبال أو الزمار وهو ممسك مزماره أو طبلته أو صاجاته.
D5C2955D-3637-43C9-BD92-DB9A172AFFDE
D5C2955D-3637-43C9-BD92-DB9A172AFFDE
طارق البرديسي (مصر)
طارق البرديسي (مصر)