تعقيب: هل كان الحكم العثماني استعماراً؟

تعقيب: هل كان الحكم العثماني استعماراً؟

27 سبتمبر 2016

رسم لسلطان عثماني يستقبل مسؤولين في اسطنبول (Getty)

+ الخط -
وصف الكاتب حلمي الأسمر في مقالته "هل كان الحكم العثماني استعماراً؟" (العربي الجديد، 22 سبتمبر/أيلول 2016) الحكم العثماني في بلاد كثيرة بأنه لم يكن استعماراً، بقدر ما كانت له إيجابياته وسلبياته، مع أن الكاتب تطرّق إلى حقائق رافقت هذا الحكم، وخصوصاً الحكم الفردي المطلق والاستئثار بخيرات البلدان التي شهدته ومقدراتها.
ما ستورده هذه السطور هنا رؤية شخصية من المغرب الكبير، ومن الجزائر تحديداً، لهذا الحكم المحاط، عندنا، بهالةٍ قدسية، كونه جاء منقذاً لنا من الهجمات الاستعمارية الغربية التي كانت تريد الاستحواذ على الجزائر، إضافة إلى أنه حكم نافذ للبلاد من الباب العالي الذي كان يمثل، في ذلك الوقت، الخلافة الإسلامية، أي إحاطة تلك الهالة بقدسية الانتماء للدين الواحد لكل من مواطني (الأهالي بالأحرى) الجزائر وتونس وليبيا (لم يصل الحكم العثماني إلى المغرب) والسلطنة العثمانية.
بالعودة إلى التعريف الذي أورده حلمي الأسمر للاستعمار، فإن معطى الاستحواذ على الخيرات هو البارز، والذي، للحق، صاحب القرون التي حكم فيها العثمانيون المنطقة ورافقها، فقد تعاملوا مع الأهالي على أنهم مورد للضرائب، والأراضي مورد للخيرات، والسكان مورد لتقوية أعداد الجيش العثماني.
للتاريخ، يمكن العودة إلى عادةٍ ما زالت معروفة في الجزائر، وهي اللجوء للسكن في أعالي الجبال والمناطق المرتفعة، إمعانا من الأهالي في رفض الضرائب التي لم تكن تتوقف في الازدياد عاماً بعد عام، والتي لم تكن تفيد الأرض والعباد، بل كانت تذهب إلى الباب العالي لتملأ صناديق المال العثمانية. وقد تعلمنا من التاريخ، بسبب الظروف الاقتصادية المزرية والمنظومة الجبائية العثمانية، أن مناطق كثيرة داخلية في الجزائر، على سبيل المثال، وصولاً إلى الصحراء، لم تطأها أبدا أرجل العثمانيين، بسبب بعدها عن السواحل، من ناحية، وبسبب مقاومةٍ شديدة عرفتها لمنع الضرائب عن السلطان، من ناحية أخرى.
بالنتيجة، بالنظر الدقيق في التعريف الذي أورده أستاذنا المحترم، يتبين أنه كان ينطبق تماماً على ما كان يقوم به العثمانيون عندنا، مع فارق أن من كان يقوم به هو من لدن الخلافة العثمانية. ولهذا سكت عنه المؤرخون، وإن شذ بعضهم عن ذلك، مثل مؤرخنا المرحوم، عضو جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، مبارك بن محمد الهلالي الميلي. وتدليلا على الآراء التي ذهب إليها في حكمه على العهد التركي في الجزائر، نورد تعليقات من كتابه "تاريخ الجزائر العام في القديم والحديث" (طبعة مكتبة النهضة الجزائرية، الجزائر، 1964)، الجزء الثالث، وهي:

"الرتب العسكرية العليا، لم تكن تمنح إلا للأتراك و قد تمنح للمسيحيين الذين يعتنقون الإسلام، أما ما عداهم من الجزائريين، ولو كانوا كراغلة (من أب تركي وأم جزائرية) فقد كانوا يبعدون عن تلك الرتب العسكرية العليا". (ص 124). "ولهذا كان هناك تقارب بين طائفة الرياس وبعض سكان العاصمة (الجزائر) الذين كان الجنود الأتراك قد حرموهم من حق المساهمة في ممارسة السلطة" (ص 160). "كان سكان الجزائر، في عهد الأتراك، ينقسمون إلى قسمين: أهل المخزن، وهم رجال الإدارة والحكم من عسكريين وموظفين مدنيين وأصحاب الامتيازات، والرعية وهم أفراد الشعب الذين يمكن لأهل المخزن استخدامهم وتجنيدهم في أي وقت، فهم تحت تصرف أهل المخزن ورهن أوامرهم". (ص 292). "ارتكزت السياسة التركية، من أول استقرارها في الجزائر، على التخوف من السكان الجزائريين، وحرمانهم من مناصب الإدارة والحكم... وكانوا لا يثقون، الأتراك، حتى من الكراغلة الذين يعتبرونهم جزائريين أكثر مما هم أتراك....". (ص 302)."... كما لا يستطيع أن يغفل عن تسجيل مسؤولية القسطنطينية الضخمة في تردّي الوضع في الجزائر، والذي كان من العوامل الأساسية التي مهدت للاستعمار الفرنسي المباشر". (ص 302). "تشكلت المدن الجزائرية، في العهد التركي، من عدة طبقات، حسب الأصول والجهات التي ينتمون إليها، فهناك الأتراك الذين يشكلون الطبقة الحاكمة التي تسند إليها المسؤوليات، وتقتطع أحسن الأحواش...". (ص 315).
وكان مبارك الميلي قد أشار، باستشهاده بتلك الأمثلة من مضمون الوجود التركي في الجزائر، إلى الأحكام التي أوردها في مقدمة كتابه المذكور (ص 10و12)، حيث تحدّث عن النزعة الاستقلالية للأتراك الذين حكموا الجزائر عن الباب العالي، ولكن للانفراد بحكم تسلطي لصالح طبقةٍ حاكمةٍ تركيةٍ خالصة، إضافة إلى كثرة السلبيات التي طبعت الوجود التركي في الجزائر، على غرار السياسة الجبائية، استئثار الطبقة الحاكمة بخيرات البلاد والضرب بيد من حديد على بعض المقاومات لتلك المظالم من سكان الجزائر، على مدى قرون الوجود العثماني في البلاد.
تشير تلك النقولات إلى ما أورده الكاتب حلمي الأسمر من صفاتٍ طغت على الحكم العثماني للبلاد الإسلامية، والمغرب العربي من هذه البلاد، وهي الاستئثار بالخيرات، الحكم الفردي والبطش بالمعارضين. وفي معرض القراءة المتأنية، هنا، لمقالة حلمي الأسمر، لا نردّد ما يقوله لا العلمانيون ولا أصحاب الحنين للغرب وعهوده الاستعمارية (الاستدمارية كما كان يصفها عضو جمعية العلماء المسلمين، محمد البشير الإبراهيمي)، بل نشدّد على أن الحكم العثماني، وإن لم يوصم بالاحتلال، إلا أن سلبياته فاقت بكثيرٍ إيجابياته، ولعل ترك الأقاليم لقمةً سائغة للاستعمار الغربي والتراجع للدفاع عن القسطنطينية فقط، بل وتحضير تلك الأقاليم للاستعمار، بجعلها ذات "قابلية استعمارية" (وفق نظرية الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي)، يكفي للقول إن العهد التركي لم يكن خيراً على البلدان الإسلامية، بل كان وبالاً عليها. ولن يعجب الحديث عن العهد التركي بهذه الطريقة، حتماً، كثيرين. لكن، وبكل موضوعية، يجب الرجوع إلى التاريخ وقراءته بتأنٍ، والنظر بعين الواقعية لما اتصف به من سلبيات وإيجابياتٍ، وهي القراءة التي تتعارض مع الاستنتاج الذي وصل إليه أستاذنا المحترم حلمي الأسمر.
وقد استخدم مؤرخنا الميلي الذي رجعت هذه المقالة إلى كتابه المذكور مصطلح "الحكم التركي" في أكثر صفحات الجزء الذي خصّصه لذلك العهد، تدليلا منه على أنه عهد اتصف بالانتصار للجنس التركي وللمصالح التركية، وهي المسلكية نفسها التي نراها حالياً بالنسبة للسياسة المسماة "العثمانية الجديدة"، حيث يعمل حزب العدالة والتنمية، وهو محقّ في ذلك، في إطار مشروع قومي طموح، لتتبوأ تركيا مكانة القوة الإقليمية، وقد تحقق ذلك لتركيا سياسياً واقتصادياً، إضافة إلى أنها، ضمن المنظومة الأطلسية، قوة عسكرية معتدٌّ بها، ودليل ذلك الدور الذي تضطلع به إقليمياً في العراق وسورية، إضافة إلى توسع العمل، ليشمل وسط أوروبا وشرقها (الأماكن التي توجد فيها الأقليات التركمانية، بصفة خاصة).
في النهاية، ثمّة مبدأ معروف في الغرب، هو "العودة للتفكير مجدّداً في مجمل القضايا"، (Rethinking) المرافق لمجمل ما ينشر، تدليلاً على أن القراءة الموضوعية للقضايا ليست ستاتيكية، بل تتمتع، كما المجتمع، بالحيوية والحركية، ومن ذلك القضايا التاريخية. وليس عيباً أن نراجع أنفسنا، ونصدر أحكاماً جديدةً على ما نراه من وقائع، بل العيب هو "الأدلجة الجامدة" التي تطبع آفاقنا الثقافية، وتمنعنا من النظر بشمولية للقضايا، أياً كانت. ولا يعني الحكم بطغيان السلبيات على الإيجابيات بالنسبة للوجود التركي في البلاد الإسلامية ألبتة الخروج على المألوف للقراءات التاريخية السالفة، بل يعني تقويماً لها ودعوةً، ربما، إلى البحث أكثر من أجل تقويم موضوعي مستقبلا لتلك الفترة.