تحولات اجتماعية سورية

تحولات اجتماعية سورية

18 سبتمبر 2016

(عدي أتاسي)

+ الخط -
كلما رجعت إلى اللاذقية، المدينة التي أسكن فيها منذ نحو أربعين عاماً، وتجولت في شوارعها وأحيائها، لمست تغيراً ما في فضائها. ربما من الصعب عليّ تحديده، لكنني أشعر به كيفما أدرت وجهي. أحاول أن أرصد التفاصيل، لأبني عليها، تفاصيل صغيرة، لكنها موجودة بغزارة وتنوعٍ لا يمكن إغفالهما.
اللاذقية من المدن السورية المعروفة بالتنوع الثقافي والسكاني، تتميز بهامش حرية اجتماعية، ربما أكثر من مدن سورية عديدة، مدينة تاريخية عريقة فيها الأوابد الشاهدة على دورها الحضاري الذي لعبته قبل آلاف السنين، وريادتها العالم في مجالات عدة، وما زالت آثار أوغاريت تحكي هذه الريادة. في المقابل، كان قدرها غاشماً في العقود الأخيرة، سنوات الاستبداد الذي أحكم قبضته على البلاد بحكمٍ شموليٍّ قمعيٍّ، رسّخ منظومة قيم تقوم على الفساد بشكل رئيسي، وعلى نمط عقد اجتماعي خاص بين المواطن والدولة، يقوم على الولاء المطلق للنظام الذي اندغم مفهومه مع مفهوم الدولة والوطن، فصار الولاء للنظام رمز الوطنية، في أبهى تجلياتها.
كانت الحرية الشخصية، فيما مضى، تحتفظ لنفسها بهامشٍ لا بأس به، قياساً بالمجتمعات المحلية في بعض المدن السورية، لكنها كانت منضبطةً بمعايير اجتماعية أكثر مما هي دينية، حتى اللباس الديني المحافظ كان أكثر رحابةً في اللاذقية. وكان، إلى فترةٍ قريبةٍ، حتى أواخر الثمانينيات يتصف بكونه لباساً يعبّر عن هوية اجتماعية محافظة، أكثر مما يعبر عن عقيدةٍ دينية، لكن التحولات التي طالت المجتمع السوري، اعتباراً من النصف الثاني للثمانينيات، وبعد المواجهات الدامية بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين، والتي أخذت فيها الهويات الدينية والطائفية تبرز بشكل دلالي لا يقبل اللبس أو التأويل، دفعت باللباس إلى أن يكون من ملامح هويةٍ تتشكل، فصار من اللافت للنظر وجود أنماط مختلفة من الحجاب، ليس فقط بين حجابٍ ونقاب، بل هناك الحجاب الشيعي التقليدي وحجاب فئاتٍ تشيعت من الطائفة العلوية، والحجاب السني، أو من المعاطف النسائية لناحية الشكل والطول واللون، كما شيوع تعليق الأيقونات ذات الرمز الديني في أعناق الصبايا، وتركها تتدلى بشكلٍ صريحٍ على صدورهن. وعلى الرغم من هذا التحوّل، بقيت الهوية الدينية أقل صرامةً وتعصباً في اللاذقية، لكن المجتمع، في العموم، كان يعاني من ممارسات أعوان النظام ورموزه وسطوتهم على المجال العام، وخصوصاً ممن ينتسبون إلى عائلة الأسد.
أما التفاصيل اللافتة الحالية فهي، بشكل رئيسي، تعود إلى شريحة الشباب وسلوكهم، ابتداءً من علاقتهم بالجسد، فتسريحات الشعر الغريبة عند الذكور صارت شائعةً في شوارع اللاذقية، مثل إطالة الشعر وربطه، أو حلاقته على طريقة جنود الرومان، حيث يحلق الشعر كاملاً في الجانبين، ويبقى في الوسط، ابتداءً من الجبهة على شكل قوس حتى قفا الرأس، وتركه ينساب على النقرة.
لم يعد أمراً نادراً أن تشاهد في المدينة أفراداً متحولين جنسياً، أو الذين يجاهرون بميولهم
 المثلية، إن بسلوكهم أو بطريقة تعاملهم أو بإظهار ميولهم بشكلٍ غير موارب. وبالنسبة للصبايا، يمكن ملاحظة الأنماط المتنوعة للباس الذي قد لا تتقيّد فيه الفتاة بمعايير الحشمة التي يفرضها المجتمع، حتى المحجّبات منهن يلبسن وفق آخر صرعات الموضة، محتفظاتٍ بحجابٍ يواكب الموضة العصرية. والتدخلات التي تجريها الصبايا على وجوههن، بحسب آخر ما توصل إليه عالم التجميل، يمكن أن تغير الملامح بشكل كبير، لا يهم، فالحقن والوشم وتلوين الشعر بأصبغةٍ لا تمت إلى طبيعة الشعر صارت مألوفة. الشعر الأحمر بدرجاته، والأخضر والبنفسجي والناري واللّيلكي وغيره، الوشوم على مناطق ومساحات واسعة من الجسد برسومٍ تبدو سريالية إلى حد كبير. ليس هذا فحسب، بل التمرّد على سلطة المجتمع التي كانت سائدة، بشكل اقتحامي يحطم الحواجز بلا تردّد، فالمقاهي تعج بالصبايا والشباب، يدخّنون النراجيل والسجائر، لا يهم السفور أو الحجاب، الجميع متفق على نمط سلوكي جديد، مقاهي الأرصفة تعج بهم. وأكثر من ذلك، صار شائعاً رؤية صبية وشاب في ركن منفرد على رصيف أو تحت شجرة أو في زاوية حديقة في وقفة حميمة، وربما عناق أو قبلة خاطفة، كما تكرّر مشهد فتاة محجبة مع شاب يلبس زياً عسكرياً في جلسة خاصة على مقعد في حديقة أو في ركن منزوٍ في مقهى.
هذه التفاصيل التي صارت مألوفة في اللاذقية دليل معبر عن التحوّلات المجتمعية، وعن التغير الثقافي الاجتماعي الذي يحصل اليوم في سورية، بعد سنوات العنف والقتل والتهجير والنزوح والغياب والتغييب والفقر والحرمان وتدني سقف الطموحات والأحلام، في مدينةٍ تضم اليوم عدداً كبيراً من كل أطياف الشعب السوري، من اللاذقية وحلب وإدلب وحمص والرقة وريف دمشق والحسكة والقامشلي ودير الزور، هي سورية مصغرة، بعدما تقلصت إلى وحدةٍ سكانيةٍ في بقعةٍ جغرافيةٍ محدودة، بعيداً عن تصنيفات السياسة ومفردات الإعلام التي تترسّخ في وعي الناس. ليست هذه البقعة سورية المفيدة، كما يحلو لبعضهم تسميتها، وليست منطقة النظام، كما يصنفها بعضهم الآخر، وليست منطقة الطائفة العلوية، وليست مجال بسط الحكومة الحالية سيطرتها، فهذا شأن آخر، تحضر تجلياته في فضاءات أخرى من الفساد الإداري والحكومي المستشري أكثر من السابق بكثير، لكنها سورية بمنظومةٍ قيميةٍ جديدةٍ آخذة بالتشكّل، قوامها الشباب الذي بقي ضمن البلاد، ولم يعلن استسلامه ورمى أحلامه في التغيير، الشباب الذي ابتهج للثورة، فخانته الحرب، واغتال السلاح أحلامه وطموحه، الشباب الذي يبحث عن هويةٍ، يحاول التأسيس لفضائه، ورسم خطوط التعيين العريضة له.
لا يمكن القول إن سورية قبل مارس/ آذار 2011 هي سورية اليوم، حتى في المناطق التي
ظلت في مأمنٍ من الحرب، لأن لهذه المناطق أيضاً ظروفها وشروط العيش فيها، حيث تميع المعاني، وتُقدّم الحياة بشكل خالٍ من الطموح، حتى منظومة القيم الأخلاقية انتهكت، مثلما ازداد انتهاك القانون بمباركةٍ من القائمين على حراسته، فأصبح الفرد يشعر بأزمةٍ وجوديةٍ خانقة. حصل التغيير، وأولى ملامح وقوعه هو المحاولات العازمة على امتلاك الجسد قبل كل شيء، وامتلاك الحيز المكاني الخاص، إن هي إلاّ صرخة احتجاج تتصعّد في الفضاء، فكثيرون من هؤلاء الشباب يحملون، في أعماقهم، جرحاً نازفاً مفتوحاً على احتمالات القطيعة مع مسقط رؤوسهم وأماكن ذاكرتهم التي دمرتها الحرب، بينما ترتفع الأصوات القائلة باحتمالات التقسيم، وكثير من شباب المنطقة الساحلية ترتفع، في أعماقهم، صرخة أخرى، ترفض الحرب، وترنو إلى القطيعة مع الموت الذي يطلّ عليهم من عيونٍ فاغرةٍ لصور ملتصقة على أعمدة الإنارة وجدران المدينة المترهلة، تحت اسم الشهيد البطل. التغيير حاصل لا ريب في هذا.