مجرد شخص من جماعة الجاني

مجرد شخص من جماعة الجاني

29 اغسطس 2016

(نذير إسماعيل)

+ الخط -
إياك أن تُبدي احتجاجاً، أو حتى استغراباً، عزيزي المواطن الأردني الصالح، لأنه، كما تعرف، يا صديقي المواطن، "كل شي بيصير". عادي جداً، عليك فقط أن توسع دائرة مداركك، وتنشيط مخيلتك لتقبل أي شيء وتصديقه. ألست مواطناً صالحاً في نهاية الأمر، ستؤدي واجبك الوطني في انتخاب مجلس نواب مضاد للنعاس على عكس المجلس السابق الذي أمضى كثيرون من أعضائه، كما تعلم، جل وقتهم، يغطّون في نوم عميق، ليس مهماً أن معظم أولئك النواب، ناعسي الطرف، أعادوا ترشيح أنفسهم، محملين بشعاراتٍ أفلاطونية طهرانية، ستترجم فكرة المدينة الفاضلة حرفياً، بفضل إرادتهم الصلبة ونياتهم الحسنة. ذلك تفصيل غير مهم، فلا تدقّق كثيراً في الأمر، وتأكد أن هذا المجلس سيكون غير شكل. وسوف يعمل، مثل المرة السابقة تماماً، على حل مشكلة البطالة وارتفاع الأسعار، وسيسعى إلى التنوير بكل الوسائل المتاحة. وعليه، يعطيهم العافية الشباب (ما قصّروا). ما علينا، المهم قد يحدث أن تكون جالساً ذات أمسيةٍ في أمان الله، بعد عودتك من العمل، محاطاً بالأولاد الذين ينطنطون حولك، مثل السعادين، مستمتعاً بالجو الأسري الدافئ، مقدّرا للحكومة الرشيدة، في الوقت نفسه، توجهها نحو خفض أسعار الحمص والفلافل، بحسب تصريحات حكومية رفيعة المستوى.
تشعر بالأمان الوظيفي، لأن أحد أصدقائك المقربين يحتل منصباً بالغ الأهمية، تتغاضى قليلاً عن الفتور الذي صار يبديه نحوك، منذ تسلمه مهام منصبه، وتعزو ذلك إلى كثرة انهماكاته، وتكتفي بأن "تجيب سيرته" عرضاً، وأنت بين زملاء العمل، من باب الترهيب الاحترازي، والتذكير بأنك "مسنود"، ما يجعلك في مأمنٍ من مؤامرات الزملاء الطامعين في الاستيلاء على موقعك.
قد يحدث، وأنت مستغرقٌ كلياً في متابعة مسلسل تركي مدبلج، تنتهي أحداثه بعد تسعين حلقة على أقل تقدير، بمصالحةٍ بين الحبيبين، وتفكر بشيءٍ من الحسرة: كم هن جميلات أولئك النسوة التركيات، حين يتحدثن اللهجة الشامية بطلاقة.
فيما أنت تطالع، في فترة الدعايات، خبراً عابراً عن أحدث جريمة شرف، راحت ضحيتها صبية جديدة، وتلقي نظرةً خاطفة على بورصة حوادث المرور التي شهدت صعوداً غير مسبوق في فترة الصيف.
قد يحدث، أيضاً، في تلك اللحظة بالذات، أن يرن هاتفك الخلوي، لأن هاتف البيت مفصولٌ بالضرورة، بسبب تراكم الفواتير غير المسدّدة، قطعاً الرنّة سوف تكون مرحة ورقيعة، وربما رومانسية، لكنها، في جميع الأحوال، لا تتناسب مع وقارك المقترح.
إياك والتفاؤل بأي حال، كأن تتوقع صوتاً أنثوياً مفرط النعومة يبشّرك بفوزك بجائزة كبرى، ولا تحلم، مثلاً، أن ثمّة تعديلاً وزارياً سوف يشملك بعطفه، بعد أن اكتشفت الجهات المعنية طاقاتك غير المستثمرة؛ الموضوع بكل بساطة أن شخصاً ما من عشيرتك التي يبلغ تعداد أفرادها بضعة آلاف، ارتكب جريمة قتلٍ، راح ضحيتها شخص من عشيرةٍ، لا تقل بدورها ثقلاً عن عشيرتك، وبالتالي، المطلوب منك أن تلزم البيت، وأن لا تذهب إلى مقر عملك إلى حين اتضاح الأمور.
وإذا ثبت أن صلة الدم تربطك بالجاني، حتى الجد الثالث، عليك أن ترضخ لقرار الجلوة، وبغض النظر عن إيمانك بأهمية سيادة القانون المدني، فقد تكون من أقوى المرشحين لنيل الثأر منه في فورة الدم، إذا فوجئت أن الجلوة العشائرية ما زال معمولاً بها حتى اللحظة الراهنة، وأن سيرتك الإنسانية، وموقعك الاجتماعي، وشهاداتك العلمية، ومنجزك المهني وأفكارك ومعتقداتك وملامحك وعاداتك، وبصمة إبهامك، وكل ما له علاقة بك كفرد مستقل، يُلغى ببساطةٍ، وتختصر أنت كلك لتصبح مجرّد شخص من جماعة الجاني.
عليك، والحال هذه، أن تكون ممتناً لأن الجلوة اختصرت، عبر السنين، من سابع جد إلى ثالث جد، وذلك لغايات التخفيف على الناس، والحفاظ على حقوقهم ومكتسباتهم. إذ يعترف المعنيون أن الجلوة تقع ضمن منظومة التقاليد السلبية التي ترهق المواطن، ولا تنسجم مع روح العصر.
ربما في المائة سنة المقبلة سوف يهتدون إلى وسيلةٍ تمكّنهم من إلغاء الجلوة، كعقوبة جماعية عبثية مخالفة لكل حقوق الإنسان، ما يبشر بأن ثمّة مستقبلاً مشرقاً بانتظار أحفاد أحفادنا. وعليه: عزيزي الأردني المعاصر: لا تُفاجأ بعد الآن، ولا تبالغ في ردود أفعالك، كي لا تؤكد مقولة ميل الأردنيين الفطري للنكد، وتذكّر أن الحياة حلوة على الرغم من كل شيء.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.