من الحسكة إلى جرابلس.. الرابح والخاسر

من الحسكة إلى جرابلس.. الرابح والخاسر

27 اغسطس 2016

من آثار المعارك ضد داعش في جرابلس (24 أغسطس/2016/الأناضول)

+ الخط -
من دواعي الدهشة أن تحرير مدينة جرابلس، ومعها ثماني قرى محيطة، على أيدي الثوار السوريين، يوم الأربعاء الماضي (24 أغسطس/ آب)، قد أثار حفيظة الزعيم الكردي/ السوري، صالح مسلم، وكان الظن أن منازلة تنظيم داعش الإرهابي، ودحره، تثلج صدر الرجل، وسبق للثوار، ممثلين بالجيش الحر، أن أسهموا في تحرير مدينة عين العرب (كوباني)، لكن الرجل أغمض عينيه عن تلك المشاركة آنذاك. وبالنسبة له، كسياسي محترف، فإن المهم، كما يبدو، ليس دحر "داعش" بالضرورة، بل لمن يمكن أن يجيّر أي انتصار على "داعش"، فإذا جُيّر له ولحلفائه، أمكن الاعتداد بهذا الحدث، وسوى ذلك، فإن الأمر يثير ريبة الرجل (!).
بالعودة قليلاً إلى الوراء، وبالمعارك التي شهدتها مدينة الحسكة السورية بين قوات الاتحاد الديمقراطي، بزعامة صالح، وقوات النظام، وباتفاق وقف إطلاق النار بين الجانبين الذي ضغطت من أجله روسيا، فإن التنظيم الكردي المسلح في سورية عاد إلى وضعه الحسّاس الذي تتعاقب فيه الخسائر والمكاسب، الفرص والمعوقات. ومن المنتظر أن تشتدّ عليه الضغوط، من دون انسداد الطريق أمام فرص محتملة، إذا أحسن الاختيار.
لقد تم احتساب ما حققه حزب الاتحاد الديمقراطي في الحسكة مكسباً، وذلك بمنازلته النظام، وانتزاع نقاط تموضع منه، مع السيطرة على 90% من مساحة المدينة. وإذ يتمتع الأكراد بدعم أميركي سافر، نظير القناعة الأميركية بأن الحركة الكردية المسلحة مهيأة لمحاربة "داعش" والانتصار عليها (هذا قبل أن يبرهن الجيش الحر مُجدّداً في جرابلس، كما في مئات المواجهات السابقة، على تفوقه القتالي على التنظيم الإرهابي)، وقد أراد الروس البرهنة على قدرتهم في التأثير على الحركة الكردية، وبمعزلٍ عن نظرائهم الأميركيين الذين هددوا طائرات النظام، فاختارت موسكو أن تضع بنفسها نقطة النهاية في هذه المرحلة للمواجهات، بين من يجمعهم حلفٌ موضوعيٌّ، إن لم يكن حلفاً فعلياً، وأنه من المبكر، في نظر الروس، التخلي عن الحركة الكردية التي ما زالت تؤدي أدواراً في إسناد النظام. غير أن القوات الكردية، في تسجيلها نقاطاً عديدة ضد النظام في الحسكة، لقيت، في الوقت نفسه، خسائر جديدة في مواجهاتٍ جديدة مع "داعش" التي سيطرت في اليوم نفسه (الثلاثاء الماضي، 23 أغسطس/آب) على خمس قرى في ريف الحسكة.
في المواجهات على الأرض، فإن الدعم الأميركي والتأييد الروسي لا يكونان مثمرين دائماً. أما
الجولة الأهم فهي على الحدود مع تركيا، وفي مدينة جرابلس، بغية تحقيق حلمٍ قديم بإقامة شريط كردي على الحدود مع تركيا. وقد أعلنت الأخيرة، بكل وضوح، أنها ستخوض الحرب دعماً للجيش الحر في مواجهة "داعش"، وقد فعلتها الأربعاء الماضي، وكذلك، إن اقتضى الأمر، مع قوات سورية الديمقراطية (قسد) التي تتبع حزب الاتحاد.
رأى مراقبون كثر، بينهم صالح مسلم، أن الحملة الجوية التي شنتها طائرات النظام على الحسكة نوع من المغازلة لتركيا، من أجل تشجيعها على التقارب مع دمشق، بعد أن برهنت الأخيرة أن لا مشكلة في التوجه إلى الضغط على الأكراد وتحجيمهم ومنع تواصلهم مع حزب العمال الكردستاني/ التركي، إذا ما قيّض لخطوات التطبيع أن تمضي وفق ما تشتهي دمشق. والراجح أن الحركة الكردية التي تقمع منافسيها، وبالذات المجلس الوطني الكردي، ستظل خاضعةً للتأثرات الروسية، وتتلقى الدعم الأميركي الذي بات مشروطاً بعدم الاحتكاك مع تركيا، وستكون مدعوةً إلى الإقلاع عن حلم بناء شريط كردي على الحدود التركية، وأن تكتفي بمحاربة "داعش"، مع الالتفات إلى الإقليم الكردي في الحسكة والقامشلي وعامودا وعفرين شمال حلب وعين العرب (كوباني) الذي ما زال مهدّدا في بعض المناطق من "داعش"، ومن سورات غضبٍ قد تطرأ على النظام، وفقا لحساباته بين مرحلة وأخرى، كما حدث أخيراً في الحسكة.
وإلى ما تقدم، فإن الطموح إلى نظام فيدرالي في سورية يتمتع فيه الأكراد بحكم ذاتي موسع، يظل هو الذي يحكم السلوك الكردي. لقد تم استبعادهم من مفاوضات جنيف، وهو ما رأوا فيه مسوغاً للمضي في مشروعهم الخاص. وسبق لروسيا أن أعطت إشارات بقبولها مبدئياً نظاماً فيدرالياً، إذا اتفق السوريون عليه. وكذلك إيران التي أرسلت إشاراتٍ متعددةً بهذا الخصوص، وصفها نائب الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، بالتقسيم الذي سيتم التعامل معه باعتباره أمراً واقعاً. يضاف إلى ذلك، أن حرمان نحو 300 ألف كردي من الجنسية الكردية بين مجرّدين من الجنسية ومكتومي القيد يشكل عاملاً ضاغطاً وحافزاً قوياً من أجل إقامة كيان كردي ذاتي. النجاح في إقامة علاقات مع أميركا وروسيا وإيران هو الضمانة الاستراتيجية للحركة الكردية، ممثلة بالحزب المسلح الأكبر، علماً أن النظام قد غضّ النظر خلال السنوات الخمس الماضية عن بدء تمتع الأكراد بوضع أقرب إلى الحكم الذاتي، مع احتفاظ النظام بوجود رمزي أمني وإداري في المدن الكردية، أو ذات الكثافة الكردية العالية، من أجل جذب الحركة الكردية إلى الاشتباك مع قوات المعارضة، وهذا ما حدث في مجمل المواجهات. فبينما احتفظ الخطاب الكردي بنبرةٍ نقديةٍ لفظية وإعلامية للنظام، فقد تحالف معه عملياً وفعلياً، على الرغم من تاريخ طويل من شكوى الأكراد منه (الاضطهاد والتمييز القومي والتعريب).
واللافت خلال هذا أن الحركة الكردية الرئيسية ظلت بعيدةً عن الحراك الشعبي السوري، ولم
تجد في عموم الشعب حليفاً أو ملاذاً لها. ولم تتوان عن اضطهاد كتلٍ سكانيةٍ عربية، كلما أتيح لها ذلك، أو رأت فيه مصلحةً آنية لها، من أجل بسط سطوتها، بما في ذلك في الحسكة. وقد تعرّض المدنيون لعسف شديد من قوات سورية الديمقراطية، وبعضهم من الأكراد الذين لا يدينون بولاء كامل لحزب الاتحاد الديمقراطي. حتى أن أصواتاً في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية رأت في المواجهات بين القوات الكردية والنظامية "مسرحية"، من أجل صرف النظر عن العسف الذي يتعرّض له المدنيون، ولتمكين قوات "قسد" من إحكام سيطرتها. وهو أمر ذهب إليه بعض الأكراد، مثل رابطة الكرد المستقلين، ولو كان الأمر مسرحيةً متفقاً عليها، لأمكن لممثلي النظام وممثلي حزب الاتحاد الديمقراطي إجراء مفاوضاتٍ مباشرة، دونما حاجة للتدخل الروسي النشط، أو للتسبب بإطلاق تحذيرات أميركية صريحة لطائرات النظام. ولعل هذه التحذيرات كانت أحد مسببات السعي إلى تفاهمٍ حقق معظم المطالب الكردية، من دون أن يعني هذا التفاهم أنه وضع خاتمةً حاسمة للتوترات، إذ إن تضارب المصالح والحسابات قد ينشأ في أية فترة مقبلة.. وهي فترةٌ شديدة التوتر، ينزع فيها الروس إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب، لمصلحة وجودهم ومصلحة النظام، قبل انتهاء عهد الرئيس باراك أوباما، الحريص على عدم التصادم، وحتى عدم الاعتراض مع التمدّد الإيراني والروسي.
يسترعي الانتباه، في هذه الغضون، أنه بينما كان حزب الاتحاد الديمقراطي يبرم تفاهماتٍ برعايةٍ روسية وغض نظر أميركي، كان رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، يزور أنقرة. والحال أن الأخيرة ترى في الحزب الكردي السوري ذراعاً لحزب العمال الكردستاني/ التركي، مع موافقة من البرزاني على هذا التصنيف، وهو ما يفسر أن حزب صالح مسلم لا يقيم علاقاتٍ مع الإقليم الكردي في شمال العراق الذي يشكل مرجعيةً لعموم الأكراد، إضافة إلى علاقاته المتوترة مع أغلبية مكونات المعارضة السورية، باستثناء طيفٍ واحدٍ من "معارضة القاهرة".
وقد أتت التطورات العاصفة في جرابلس، والتحذيرات الأميركية التي أطلقها نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، من مغبة اقتراب القوات الكردية في سورية من الحدود مع تركيا، لتذكير حزب صالح مسلم بأن الولايات المتحدة حليفٌ لتركيا، وقد قدّمت غطاءً جوياً لمعركة تحرير جرابلس، ما يجعل أية حساباتٍ لقوات الرجل خاطئةً، إذا ما قفزت عن أهمية الدور التركي، وضرورة عدم الاحتكاك بالجارة الكبيرة. وفي جميع الأحوال، فإن تطورات هذا الأسبوع غنيةٌ بالدلالات، وتقتضي من الطرف الكردي المسلح في سورية أن يعيد النظر في حساباته ومجمل سياساته.