ولادة متعسّرة لتفاهمات محدودة

ولادة متعسّرة لتفاهمات محدودة

08 يوليو 2016
+ الخط -
تشكّل خرائط التحالفات المتغيّرة والتفاهمات الجارية، حول سورية، محاولةً للبحث عن سبيلٍ لإيجاد طريق سالكٍ للمولود، الافتراضي، القادم، أو محاولةً لتحديد جنسه على الأقل، من دون أن يعني ذلك المباشرة في البحث في شكل الحل وآلياته، أو حتى توفّر مجرد تصوراتٍ أوليةٍ واضحة عنه، فليس لدى أحد من الأطراف، ولا حتى التحالفات، القدرة حتى اللحظة على فرض صيغةٍ ما للحل، في وسط من التعقيدات الهائلة التي باتت تنطوي عليها الحالة السورية.
وعلى الرغم من حجم الاستثمارات السياسية والعسكرية في الملف السوري، فإن هدف جميع الأطراف ينصبّ، بدرجةٍ كبيرة، على التقليل من احتمالية أن يكون المولود الجديد ضارّاً بها، على الأقل في المرحلة الأولى، حيث لا أحد يضمن، حتى اللحظة، قدرته المطلقة على ترتيب الشكل والصياغة المناسبة له. وبعكس ما تدّعيه إعلامياً أطرافٌ عن فعاليتها وقدراتها التأثيرية، لا أحد، في المعترك السوري، يقبض على اليقين بالنصر، بقدر ما تنصرف تقديراتُ الأطراف على رهاناتٍ بإمكانية تحقيق بعض الفائدة، بمعنى أن الجميع يخوض في إطار التجريب، والمهم هو البقاء ضمن دائرة التأثير وعدم خروجه منها، كما تفعل تركيا، وحتى روسيا وأميركا بدرجة أقل، وكذلك الحال بالنسبة لإسرائيل وإيران والأطراف العربية.
ولهذا السبب، تلجأ الأطراف إلى تكتيك تشبيك الروابط بينها بالقدر الممكن، من جهةٍ، بهدف حصر التداعيات قدر الإمكان والتحوّط لها. ومن جهةٍ أخرى، بهدف توسيع فضاء الحركة وهوامش المناورة وتنظيف خريطة طرقها من حقول الألغام. وفي هذه الحالة، تحاول جميع الأطراف الالتقاء عند نقطة محاربة "داعش"، حتى لو لم يكن هناك التزام مطلق تجاه هذه النقطة. المهم تحويلها إلى مدماكٍ أساسيٍّ لبناء هياكل التحالفات عليه، بما يضمن توفّر بيئة مرنةٍ وقادرةٍ على استيعاب التباينات الأخرى، وجعلها طبيعيةً، بما فيها مصير الأسد، الذي تحوّل إلى ورقة مساومة بيد بعضهم، وعنصر ضغط يتأرجح بين التشديد على استمراره وإمكانية التخلي عنه، في مرحلةٍ معينةٍ، شريطة ضمان البيئة المناسبة والشروط اللازمة.
هذا يعني أن خريطة التحالفات لن يتم إغلاقها في مرحلةٍ قريبة، وسيبقى بطن سورية مفتوحاً لمزيد من صناعة التحالفات وتفكيك بعضها الآخر، أو تقوية الروابط هنا وإضعافها هناك. وتأخذ هذه العملية طابع الصراعات العنيفة أحياناً، وخصوصاً على مستوى الجهات المنفّذة، كما حصل مرّاتٍ بين مليشيات إيران وأذرعها العراقية والسورية وبين قوات الأسد التي يبدو أنها مرتبطة بدرجة أكبر بغرفة العمليات الروسية وأوامرها.
إلى أية درجةٍ تتحكّم القوى الكبرى، الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، في صناعة المشهد السوري والتحكّم بطبيعة المولود الموعود، وتاريخ ميلاده، خصوصاً في وجود قناعة راسخة، حتى على مستوى دوائر صنع القرار في المنطقة، بوجود تفاهماتٍ على ترتيبات معينة بشأن سورية والمنطقة برمتها، جرى التفاهم عليها بين واشنطن وموسكو، وهي تنتظر الظروف المناسبة للإعلان عنها فيما سماه بعضهم تفاهم ( كيري – لافروف)، تشبيهاً باتفاق سايكس – بيكو.
يثبت الواقع العملاني في سورية عدم وجود تفاهماتٍ نهائيةٍ حول المآل الذي ستستقر عليه
الأوضاع السياسية والخريطة الجغرافية، حتى بين بعض الحلفاء أنفسهم، ولعل حادثة توبيخ الروس الأسد على تصريحه بأنه يرغب في استعادة السلطة على كامل سورية تشكّل نقطة مفتاحيةً مهمةً في تحليل تفكير القوى الكبرى في رؤيتها للحل في سورية، ذلك أن الروس يومها أرادوا توضيح مسألةٍ مهمةٍ للأسد، هي أن تفاهمهم معه لا يشمل قضية استعادة السيطرة على سورية كلها. وينطبق الأمر نفسه على التفاهمات الأميركية مع الأكراد، التي تقتصر على تأمين بعض مناطقهم من "داعش"، ولم تصل إلى حد التزامهم الاعتراف لهم بدولة على الشريط الحدودي مع تركيا.
هذا يعني أن غالبية التفاهمات الحاصلة في سورية، سواء داخل منظومة التحالف الواحد، أو بين الأطراف المختلفة، محدودة، وحول قضايا وقطاعات معينة، ولم تصل الأطراف، حتى اللحظة، إلى تفاهماتٍ موسّعة. وقد يكون التفسير الأقرب إلى فهم هذا الواقع حقيقة أن جميع اللاعبين الكبار كانوا يديرون الصراع من خلال وكلاء محليين أو إقليميين، وتأخروا كثيراً في الانخراط الفعلي، ويجدون اليوم أنفسهم أمام خريطةٍ معقّدةٍ، يصعب ضبطها، أو السيطرة عليها. وبالتالي، تأخذ التحركات طابعاً حذراً من مختلف اللاعبين، بحيث لا يجرؤ أي لاعبٍ سوى على القيام بتكتيكات شكلية، يحاول فيها إثبات مدى قدرته في مسعى، الهدف منه تقوية أوراقه في مواجهة الآخرين.
لا يلغي هذا التحليل حقيقة تضارب المصالح والأهداف بين اللاعبين المختلفين، وهو ما ينعكس حكماً على الصراع الدائر بينهم، وتأثيره على ولادة الحل، لكن التكتيكات التي يستخدمها جميع اللاعبين تُنذر بإطالة زمن الحمل إلى وقتٍ يصل فيه الجميع إلى الإضطرار إلى التضحية بالأم (سورية)، من دون ضمان أن لا يكون المولود مشوّهاً، وهو لن يكون غير ذلك.
5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".