قيامة المعارض الأخير

قيامة المعارض الأخير

12 يوليو 2016
+ الخط -
استغرق الرئيس وقتاً طويلاً، لكي يتأكد أن ما يحدث خارج قصره جلبة جماهيرية عنيفة، لم يعتد عليها منذ أخمد آخر نفسٍ معارضٍ قبل عقود، ولم يبق سوى (المعارض الأخير) الذي كان مفترضاً أن تخمد أنفاسه عند شروق شمس هذا اليوم، لكن الشمس لم تشرق بعد، والرئيس ما يزال يتمطّى في سريره.
نظر الرئيس إلى الساعة الضخمة التي تتصدّر غرفة نومه، فرفع رأسَه باستغراب، إذ كانت عقاربها تتجاوز السابعة صباحاً بكثير، فذُهل لأن الظلام ما يزال مخيماً في الداخل والخارج، على حدّ سواء.
وقبل أن ينهض الرئيس من فراشه، ليستوعب ما يحدث، كان سكرتيره الخاص يفتح الباب من دون استئذان، ويقتحم غرفة الرئيس، وهو يصرخ مذعوراً: "سيدي.. الشمس أشرقت من الغرب".
انتفض الزعيم، وتساءل: "ماذا تقول أيها الغبي؟.. كيف تشرق الشمس من الغرب؟".
- نعم يا سيدي.. هذا ما حدث اليوم، والناس هرعت إلى القصر، لأنها تعتقد أن يوم القيامة اقترب، وتطالب بالإفراج عن (المعارض الأخير).
بهتت ملامح الرئيس، وغارت عيناه، جرّاء هذه الصدمة المباغتة (يوم القيامة).. هو الذي رتب نظام استبداده ترتيباً لا تنفذ منه النملة، لكنه لم يحسب حساباً لمثل هذا اليوم.
- هل أعدمتم (المعارض الأخير)؟..(تساءل الزعيم بصوت خافت).
- لا، يا سيدي، لأن المفروض أن يعدم عند شروق الشمس، لكن الشمس لم تشرق كما ترى، هل ترغبون فخامتكم بإعدامه الآن.
ازدادت ضربات قلب الزعيم، وأحسّ، للمرة الأولى في حياته، بالعجز عن اتخاذ قرار، فقد شعر أن هذا (المعارض الأخير)، إما أن يكون صكّ الغفران بالنسبة له، إذا عفا عنه، فيمسح به ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، أو يمكن أن يكون القشة الأخيرة التي تدفعه إلى نار جهنم، إذا أعدمه.
أما وفق الإشارات الدالة على القيامة، فلم يعد أمام الرئيس غير ثلاثة أيام فقط، لممارسة حكمه، وعليه أن يقرر الآن، وقبل فوات الأوان، أيّ الحكمين يختار، مع إدراكه التام أن لكل حكم ثمنه، فأن يعفو عن هذا (المعارض الأخير)، فذاك يعني، باختصار، أنه يمسح تاريخ حكمه كله بجرة "عفو"، خصوصاً وأنه يعتزّ بهذا التاريخ، و"بهيبته" التي جعلت البلد تسير على أطراف أصابعها من شدّة الرعب، وستسقط تلك الهالة التي بناها في عيني شعبه، بعرق "سوطه" وسجونه.
في المقابل، إذا اتخذ قراراً، بإنفاذ الحكم، فسيكسب الدنيا ويخسر الآخرة، كما يقولون، فهل يتنازل عن هذين اليومين المتبقيين، لقاء نعيمٍ خالد، يتمّم ما عاشه من نعيم الدنيا؟
خرج الرئيس إلى الشرفة، ليستعرض الجماهير المحتشدة حول القصر، وهي تطالب بوقف حكم الإعدام عن (المعارض الأخير)، على اعتبار أن يوم القيامة اقترب، والكل سيموت بعد ثلاثة أيام، فشعر حينها بأنه يميل أكثر إلى اتخاذ قرار العفو، ليس تلبيةً لرغبة الجماهير بالتأكيد، لكنه بات أكثر رغبةً بكسب الدنيا والآخرة معاً، خصوصاً وأنه ذو عقل "تجاري" محض.
عند هذه النقطة، وجد الزعيم نفسه يرفع يديه للجماهير المحتشدة، ويهتف: "أشهدكم أنني عفوتُ عن المعارض الأخير، وفي وسعكم أن تذهبوا إلى السجن بأنفسكم لإطلاق سراحه".
على الطرف المقابل، كان (المعارض الأخير) يدرس حساباته، هو الآخر، ويستمع لكل ما يدور من هتافات في شوارع البلدة، فيشعر بامتعاضٍ داخلي كبير، هو الذي قضى عمره كله تحت سوط الرئيس وبسطاره، فكان يشعر أن القيامة وحدها هي الفاصل الوحيد بين السوط والحرية، بين المغفرة والعقاب.. ووسط هذا التفكير المضني، سمع من بعيد صوت الجماهير القادمة إليه بفرح.
حين وصلت الجماهير إلى السجن، لإخراج (المعارض الأخير)، فوجئت به يتدلّى من سقف الزنزانة منتحراً بالبشكير، وعيناه جاحظتان صوب الشمس البعيدة.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.