علاقات القوة والسيطرة في الساحة الفلسطينية

علاقات القوة والسيطرة في الساحة الفلسطينية

12 يوليو 2016
+ الخط -
لا يقتصر تاريخ الشعوب على تاريخ الأفكار فحسب، بل هو أيضاً تاريخ البشر الذين يصنعون هذا التاريخ، وتاريخ فئاتهم الاجتماعية المكوّنة لهذا الشعب أيضاً. لذلك، لم تكن التجارب التاريخية تحوّلات في الأفكار والمطالب السياسية فحسب، بل كانت دوماً تاريخ بشرٍ دفعوا غالياً ثمن تجربتهم، وأثروا وتأثروا بها أيضاً.
لا تختلف التجربة الفلسطينية عن هذه التجربة الإنسانية، على الرغم من خصوصيتها. وبسببٍ من هذه الخصوصية، تحتاج التجربة الفلسطينية إلى مزيدٍ من الدراسات والأبحاث حول شبكة العلاقات بين البشر والأفكار التي شكّلت وشغلت الحقل السياسي الفلسطيني، وما أثرته فيهم، ومن أثروه فيها؟
أعطت العملية الاقتلاعية التي تعرّض الفلسطينيون لها تجربتهم خصوصية، حتى بالنسبة لعلاقات القوة والسيطرة. لذلك، عانت الساحة الفلسطينية من علاقات عنف وتسلط من نوع خاص، حيث تسلطت القيادات الفلسطينية على الشعب، عن بعد، وهذا ما حال دون إمكانية محاسبتها من الشعب، أو يؤثر فيها وفي قراراتها، وكانت حصة الشعب الفلسطيني من القرار السياسي الفلسطيني متواضعةً، إن لم نقل معدومة، على الرغم من أنه صانع التجربة.
قد يبدو هذا التوصيف مجافياً للحقيقة، لافتقاد القيادات الفلسطينية أدوات السلطة العنيفة الإكراهية، السجون، الشرطة، الجيش... ولافتقادها، في إجمالي تجربتها، السيطرة على التجمعات الفلسطينية، بحكم عيش الأخيرة تحت عنف سلطات دول أخرى. ولو أنها استخدمت هذا النوع من السلطة على أجزاء من الشعب الفلسطيني في بعض المراحل، خصوصاً بعد تجربة السلطة الوطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة. لكن، في علاقات السيطرة، ليس من الضروري أن يأخذ العنف شكلاً سافراً، عبر القمع الدموي، فقد تكفلت السلطات العربية، على اختلاف أنواعها، بممارسة هذا العنف على الفلسطيني. لكننا اليوم ندرك، بفضل علم الاجتماع، أن هناك "عنفاً رمزياً" لا يقل خطورةً عن العنف السافر، وقد تمت ممارسة "العنف الرمزي" فلسطينياً على نطاق واسع، وكان أسلوباً مجدياً للتحكّم، إلى حدٍّ ما، في مجتمعات ليس هناك سيطرةً مباشرة عليها، حيث تحل الهيمنة المولودة من القدرة على ممارسة العنف الرمزي بديلاً عن ممارسة العنف السافر. وهذا ما جرى فلسطينياً، فبدلاً من استخدام أشكال العنف السافرة، والتي لم تكن ممكنةً في الساحة الفلسطينية قبل تجربة "أوسلو"، أي أشكال العنف الممأسسة للسلطات القائمة، بوصف السلطة المحتكر الوحيد للعنف، تم استخدام أشكال العنف الرمزية أو الخفية، حيث استطاعت القيادات الفلسطينية اختراق التجمعات الفلسطينية بعلاقات الهيمنة والسيطرة من بعيد، بواسطة ممارساتٍ متعدّدة الأشكال، وفرت لها سلطتها على التجمعات الفلسطينية. حيث وفر لها احتكار "الوطنية" على الصعيد الفلسطيني القدرة على ممارسة "العنف الرمزي" بشكل منظم، وجعلها قادرةً على التأثير فيه، بقدر أو بآخر، على التجمعات الفلسطينية جميعاً، على الرغم من وجودها خارج سيطرتها.

أعطى هذا الوضع للقيادة الفلسطينية إمكانية التأثير بسلطتها الرمزية في الآخرين، من خلال إخراجهم وطردهم من الحقل الوطني، في أوقات الخلاف معهم، باعتبارهم ضد الحقوق الوطنية الفلسطينية، وعملاء لجهات معادية. وهي بذلك مارست أنماطاً مختلفةً من السلطة على التجمعات الفلسطينية، من أجل توكيد سيطرتها، كسيطرة مشروعة ومعترف بها من هذه التجمعات، كون منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد لهذه التجمعات، باعترافٍ رسمي عربي. كانت هذه السيطرة مهمةً لهذه القيادات، بقدر ما تؤمن ممارسة السيطرة "بلطف"، إذا صح التعبير، لعدم خضوعها لسلطتها الإكراهية، فالعنف يمارس، بشكل خاص، في "الحقل الرمزي"، لكنه عنف فعّال. فعلاقات السيطرة ليست اقتصادية وسياسية واجتماعية وعنفية فحسب، بل هي علاقات قوة وسيطرة على المعاني والرموز واحتكارها. وللرموز في التجربة الفلسطينية مكانة خطيرة ومهمة جداً، واحتكار تمثيلها يعطي محتكرها سلطات قوة داخل التجمعات الفلسطينية. وبذلك، تكون السلطة التي استخدمتها القيادة الفلسطينية هي التي تعني "القدرة على فرض الإرادة على الغير"، من دون امتلاك أدوات الإكراه المادية في مواجهة هذا الغير.
من أجل إعطاء السلطة معناها الرمزي حتى مداه، دعمت القيادات الفلسطينية منظمة التحرير "ممثلاً وحيداً للفلسطينيين"، بوصفها تنظيمها البيروقراطي الذي يوفر لها أدوات السيطرة الرمزية بشكل أساسي، إضافة إلى فصائلها الخاصة. ولأن كل تنظيم بيروقراطي هو نسق تنظيمي، يقوم على آليات توازن، وعلى وجود سلسلة من الحلقات المفرغة المستقرّة نسبياً، وتتم تقويتها في مناخٍ من التعميم والمركزية. وفي هذه المناخات، يتبارى الأفراد في خدمة التنظيم من خلال خدمة الفرد الذي يقرّون له بالولاء، ويساهمون بتكريس سلطة الفرد من خلال هذا الولاء، والذي يشكل الأصول الحقيقية للعلاقة بين القائد والكادر. وضمن هذا المنظور الاستراتيجي للعلاقة بين القائد والكوادر، ينبغي النظر إلى السلطة في التنظيم وكأنها ملكية شخصية. لذلك، لم يكن غريباً أن يسمي المزاج الشعبي الفلسطيني الفصائل الفلسطينية بأسماء أمنائها العامين. ومن هنا، فإن معطيات القوة ليست معطيات يمكن للجميع الوصول إليها تنظيمياً في التجربة الفلسطينية، منظمةً وفصائل فحسب، بل هي حصراً لصاحب الملكية لهذا المنصب، الرئيس أو القائد العام أو الأمين العام. وبالتالي، يبقى توازن القوة على حاله، فليس من الجديد القول إن السلطة علاقات قوة، وعندما لا تكون تبادلية، فإنها قوة ينال أحد الأطراف فيها أكثر من الطرف الآخر، بحيث لا يفقد منصبه أبداً، خصوصاً منصب الرجل الأول. وهذه العلاقات هي التي حكمت منظمة التحرير في ائتلاف فصائلها، كما حكمت السلطة الفلسطينية منذ ولادتها.
المشكلة البنيوية التي رافقت التجربة الفلسطينية، منذ تأسيس علاقات القوة فيها منذ نهاية الستينات، لم تتغير فعليا، على الرغم من كل الوهن والضعف الذي أصاب التنظيمات المشكلة لها. ولم تأت أي قوة سياسية لتقتطع من علاقات القوة هذه سوى حالة حركة حماس. ولكن، حتى هذه الحالة، لم تؤثر على مكانة القوة المركزية، على الرغم من استنادها إلى نتائج انتخابات المجلس التشريعي 2006، والتي حصدت أغلبية كبيرة لمقاعده، لكن هذه التجربة نفسها أثبتت أن علاقات القوة في الساحة الفلسطينية ليست انتخابية، بل هي مكونة من مجموعة من العناصر، واحدة من أهمها احتكار السيطرة على الرموز. وعلى الرغم من كل الاهتراء الواضح في البنى التنظيمية، لم تظهر أية بنى تنظيمية صاعدة قادرة على المنافسة بقوةٍ على هذه الرموز، وبالتالي، على الحقل السياسي الفلسطيني.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.