"إخوان" الأردن... إنقاذ ما يمكن إنقاذه

"إخوان" الأردن... إنقاذ ما يمكن إنقاذه

16 يونيو 2016
+ الخط -
نشأت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن قبل ما يزيد عن نصف قرن بكثير، في كنف الملك عبد الله الأول الذي كان يشرع للتو في بناء مملكةٍ ناشئةٍ على تخوم فلسطين التاريخية التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، قُطراً عربياً لم يخرج من الانتداب إلا للدخول في أخطر احتلال استيطاني شهده بلد عربي، ويبدو أن "المصادفة" المُحكمة في تزامن الحدثين لعبت دوراً فريداً في منح "الجماعة" وضعاً خاصاً في الرعاية الملكية، حتى إن نشاطات كثيرة لها كانت تتم برعاية رسمية مباشرة من الملك، أو أحد أعضاء الحكومة، ولم يكن غريباً في تلك الحقبة أن يعرض الملك عبد الله الأول على مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، الإمام حسن البنا، الاستقرار في الأردن، في إحدى زياراته عمّان، ومنحه الجنسية الأردنية، ودمجه في الحياة السياسية في المملكة الفتية، إلا أن البنا اعتذر برفق للملك، وعاد إلى بلاده.
وحينما اعتلى العرش الملك الحسين، حظيت الجماعة بالرعاية نفسها، وأخذت شكلاً قانونياً أكثر تنظيماً، بعد أن كانت قد سجلت في عهد الملك المؤسس جماعةً شاملةً اجتماعيةً سياسيةً خيرية، بقرارٍ من مجلس الوزراء آنذاك، وحين وقعت محاولة انقلاب الخمسينيات، وقفت الجماعة بقوةٍ في وجه الانقلابيين، وانحازت للقصر وحاربت تحت رايته، حتى إذا حُلّت الأحزاب إثر فشل المحاولة، بقيت الجماعة تعمل وحيدةً، كتنظيم سياسي واجتماعي، فيما توارت بقية التنظيمات، إما تلاشيا أو نزولاً تحت الأرض. وظلت تلك الحادثة تُحسب لـ "الإخوان" واحدةً من مآثرها على الحكم في الأردن، ويحلو للإخوان المسلمين هنا (أو لبعضهم على الأقل) أن يُرجعوا استمرار وجودهم تنظيماً إلى أنهم مسجلون جماعةً وليس حزباً، حيث شمل قرار حل الأحزاب كل التنظيمات الموجودة واستثناهم، لأنهم ليسوا حزباً. وفي الحقيقة، كان السبب صائباً من الناحية الشكلية، لكن السبب الحقيقي للإبقاء على التنظيم وقفته الحازمة إلى جانب القصر الملكي في وجه الأحزاب القومية واليسارية، والمد الناصري أيضاً.
وقد استمرت الرعاية الملكية للإخوان، منذ ذلك الحين، وإنْ شابت علاقتهم بالدولة بعض الفترات الساخنة، عبّرت عن نفسها باعتقال أعضاء وقيادات في التنظيم الإخواني ومضايقتهم، وقد بلغ أوج هذه السخونة في الثمانينيات من القرن الماضي، حين ضيّقت الدولة الخناق على "الإخوان" ومنعتهم من الانخراط في مناصب الدولة. ولم تمنع الأزمات العارضة بين الطرفين من استمرار "الإخوان" في تأكيد وقوفهم إلى جانب القصر، المرة تلو الأخرى، خصوصاً في أحداث مفصلية مهمة، كما حصل حين وقفوا على الحياد في أثناء أزمة أيلول الأسود، ثم فيما سمي هبة نيسان وانتفاضة الخبز، وغيرها من الأزمات التي مرّت بها المملكة. ويلاحظ أن الصورة الإجمالية لعلاقة "الإخوان" بالدولة الأردنية كانت تقوم على اتفاق "جنتلمان" غير مكتوب، اقتضى إبقاء النشاط الإخواني عند خط أحمر، حافظ على مساحةٍ معقولة، ضمنت عدم تدخل "الإخوان" في ما "لا يعنيهم" من شؤون الحكم، إلى درجةٍ كانت القرارات الرسمية تتحرّك في مساحة كاملة من الراحة، من دون أن يؤثر الوجود الإخواني على ماهيتها، وبلغ هذا "التعاون السلبي" ذروته، حين قرّر الملك الحسين عقد معاهدة سلام مع اسرائيل، بوجود سبعة عشر نائباً إخوانيا في البرلمان الذي صادق على المعاهدة!
ويبدو أن مقاطعة الإخوان المسلمين الانتخابات البرلمانية النيابية لعام 1997، كانت من
القرارات الأكثر دراماتيكية في التاريخ الإخواني في الأردن، حيث بدا أن الجماعة تنزع إلى النأي بنفسها عن سياستها الهادئة التي اعتاد عليها القصر الملكي، وكان الملك الحسين قد عبّر عن ضيقه قبل ذلك، إثر فوز "الإخوان" بثلث مقاعد البرلمان في انتخابات 1989، الأمر الذي دفع باتجاه سن قانونٍ جديدٍ للانتخابات، سمي قانون الصوت الواحد، للحدّ من النفوذ الإخواني في الشارع السياسي. ولعل تلك الحقبة، مع ما رافقها من سقوط ذريع للطرحين، القومي واليساري، على الساحة العربية برمتها، دفعت القصر إلى إعادة حساباته تجاه الجماعة، على الرغم من عودتها إلى المشاركة بالانتخابات البرلمانية فيما بعد، بعد أن اكتشفت عقم المقاطعة، وما لحق بها من تهميشٍ وتضييق، وتلويح أميركي غربي بإمكانية وضعها على لائحة المنظمات "الإرهابية"، بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، كما حصل مع حركة حماس، وهي الشق الإخواني في فلسطين.
وإضافة إلى ما سبق، بدا أن حقبة الربيع العربي، وما رافقها من زلزلةٍ لبعض الأنظمة، فتحت شهية "الإخوان" على ما يسمّونه "التمكين"، فتجاوزوا، بنظر القصر، الخطوط الحمراء، وبدا أنهم كسروا اتفاق الجنتلمان إيّاه، منتشين بفوز إخوان مصر برئاسة الدولة، فوجبت معاقبتهم، ولأنهم جزءٌ كبير ومهم من الحراك السياسي الأردني، ومن المحال "إبادتهم" وإخراجهم من الساحة فيزيائياً، تم اللجوء إلى عمليات عدة لتحييدهم وتفتيتهم، وإبقائهم على صفيحٍ ساخن، وقد استمر تنفيذ هذه السياسة، لإعادة إنتاجهم وفق مقاسات الزمن الجديد، من دون نظرٍ إلى الأهمية التي يشكلونها، كفيلق رديف للدولة والمجتمع، في محاربة فكر التطرف والتكفير والعنف، بعد أن تغلبت وجهة النظر التي تقول إن خطرهم (على المدى البعيد!) لا يقل عن خطر غيرهم من ألوان "الإسلاميين"!
عودة إخوان الأردن (عبر قرار حزبهم، جبهة العمل الإسلامي) إلى المشاركة في الانتخابات النيابية الوشيكة، محاولة لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تنظيمٍ عصفت به تطوراتٌ إقليميةٌ كبرى، وجدت تعبيراً قوياً لها في صفٍّ داخلي، كان أصلاً يعاني من ترهل مزمن.