الهروب من السياسة إلى الحب

الهروب من السياسة إلى الحب

02 يونيو 2016
+ الخط -
بوح سريع لكنه جارح، جاء عبر رسالة صغيرة من هاتف خلوي: حياة مشفرة، يلعبون بنا الكرة، شباب تائه بلا مستقبل، حب "دايت" بدون أي أمل في فتح بيت وتكوين أسرة، ديمقراطية كذابة، أكتب إن شئت أو إن استطعت.
ربما تكون طريقة جديدة في ممارسة حرية التعبير الأقرب للتشفير. لم أحاول الاتصال بالرقم احتراماً لحرية صاحبه أو صاحبته في الاكتفاء بهذه الطريقة بالتعبير، فالرسالة وصلت خلوياً، وهي تختصر ملفاتٍ مفتوحةً يدوخ في ثناياها كتاب ومؤسسات ومربون، وساسة أيضاً منشغلون بتحقيق "إنجازات" دون كيشوتية، أو على الأثير والورق فحسب.
فجأة نتذكّر الشباب، في المناسبات، أو حين تصدمنا قصة مشحونة بالدراما. هم بيننا يتألمون بصمتٍ كما يبدو، لكنهم يعبّرون بطريقتهم: يذهب بعضهم إلى المسجد، وينضم إلى أقرب جماعة، والمحظوظون فقط من تتلقفهم جماعةٌ معتدلةٌ عقلانية، أما القسم الثاني فقد يقع في شرك جماعةٍ دمويةٍ حدّية تعتبر الوسطية تفريطاً. آخرون تقودهم خطواتهم إلى الشارع، أو إلى اللاشيء، تسكع همالاتٍ على أنواع، لذائذ مجنونة. وهناك من ينجون، لأسبابٍ: إما أنه وجد يداً حانية تقوده إلى النجاح والفلاح، عملاً وزواجاً وفتح بيت، أو أنه تحدّى ظروف القهر والإعاقة الاجتماعية والسياسية، وشق طريقاً في الصخر، فبنى نفسه كل شبر بنذر.
في زحمة (وضخامة) الحدث السياسي الذي نعيشه في منطقتنا العربية، ننسى نصفنا أو ثلثينا: الشباب، ونتذرّع بانشغالنا برغيف الخبز، أو تحقيق حلمٍ دفين، أو أجندةٍ ما، فيما هم ينتقلون، بخفةٍ وسرعةٍ، من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج، وحولهم طوفان من رموز (وأغاني) الحب والغرام والهيام، والوصل والهجر، ودعواتٍ سريةٍ وعلنيةٍ لممارسة الحب. لكن، مع وقف التنفيذ، أو الحب "الدايت" منزوع الدسم، كما عبّر (أو عبّرت) صاحب (أو صاحبة) الرسالة، ومطلوبٌ منهم أن يتحلوا بالفضيلة والصيام عن العواطف، أو ترشيدها وقمعها، وربما مسحها، مطلوب منهم أن يمارسوا أقصى درجات الاحتباس العاطفي، أو أن يطقوا ويموتوا، أو أن ينزلقوا إلى مهاوي الرذيلة، ويستسلموا للشيطان وعبدته.
شباب كثر حولنا، نتغنّى برعايتهم والاهتمام بهم، وندّعي أننا نعيش من أجلهم، وهم مغيّبون، أو مقموعون محرومون من التعبير عن أنفسهم، يتغنى بأهميتهم كثيرون منا، وبأنهم وقود للتغيير. وحين يتحول الكلام إلى الجد، سرعان ما نسخّف آراء هؤلاء الشباب، ونُقصيهم بعيداً عن صنع القرار، ونتولى نيابةً عنهم مهمة اتخاذ القرارات الخاصة بهم، ونعيّن ممثليهم لنحاورهم في همومهم وشؤونهم، لكي نسمع منهم ما نريد ونحب أن نسمعه، لا ما يعبّر عن دواخلهم وأحلامهم وهمومهم.
وكما ننسى الشباب، ننسى "شباب" قلوبنا، فلدينا وقتٌ للكراهية والشجار والسعال والشجار والحقد، والاشتباك مع الهواء العابر بأنوفنا، وسائق السرفيس ورب العمل. ولدينا وقت أيضا للشتيمة والنميمة، وما لا يحصى من مكاره: أما للحب وقت؟

سألني صديق، وأنا أكتب هذا المقال: أثمّة وقت للحب، وسط بحر الكراهية الذي تضربنا
أمواجه من كل جانب؟ هل لدينا متسعٌ لكي نسمع ضربة قلبٍ خافقةٍ بعاطفة، فيما تقرع قلوبنا طبول الاغتيالات والموت اليومي، على وقع سنابك الحرب العالمية الثالثة التي تخوضها جحافل هولاكو/ طبعة الألفية الثالثة، مرّة ضد الإرهاب، وأخرى ضد الحجاب، ومرة ضد طواحين الهواء؟ إلى أين تتجه بوصلة القلب، ولم تبق لنا إسرائيل ولا أميركا (ولا نحن أيضا في حروبنا الأهلية) فسحةً من راحة، أو شوطاً من ذكريات، إلا بما يغذّونه من صور جديدة لجنازاتٍ ومآتم وأشلاء، تجد شيئاً منها تحت مخدتك، حين تأوي للنوم؟
وقت للحب.. هل جننت؟ وأنت رجل تحمل على كاهليك أكثر من نصف قرن من عذابات ملايين المحرومين والمعذّبين، اللاجئين والنازحين، والمهجّرين، والمنفيين، والمحرومين، والأشقياء، لا نقول من البحر إلى النهر، ولا من المحيط إلى الخليج، بل من طنجة إلى جاكرتا؟ وقت للحب؟ ماذا تقول لشريكة عمرك: هل ثمّة امرأة جديدة في حياتك؟ هل ثمّة مشروع زواج؟ أي ماء زمزمي سيُطّهرك من تلك الشبهة؟ أتحب وأنا هنا مقيمةٌ ما أقام عسيب؟ وقت للحب؟ ماذا أبقيت لأبنائك وبناتك، أيها الشيخ؟ أو يحبّ "الكهول" من أمثالك؟ من المفهوم ضمناً أن يكرهوا، أن يتذمّروا، أن يسعلوا، أو يُخرّفوا، أو يُحدثوا أنفسهم، أن يصرخوا بأطفالهم، أن يأتوا بربطات الخبز، ورؤوس القرنبيط، ويدفعوا فواتير الكهرباء، أن يعظوا أبناءهم العاقّين، أما أن.. يحبّوا؟ ماذا تقول لشيبك ووقارك (المزعوم!)؟ ماذا أبقيت للمراهقين؟ ولأبناء الجيران وبناتهم؟ هل فكّرت في إرسال رسالةٍ إليها عبر الهاتف الخلوي؟ أم ستكتب رسالة مضمخة بالعطر، وتبعث بها مع أحد أبناء الحارة؟ أم ستكتفي بالإيميل مستفيداً من عصر الإنترنت؟
وقت للحب؟ وأي حبٍّ أيها الشايب العابث؟ هل ستستمع إلى فيروز، وهي تغني بين يدي: جاءت معذبتي في غيهب الغسق/ كأنها الكوكب الدري في الأفق/ فقلت نوّرتني يا خير زائرة/ أما خشيت من الحراس في الطرق؟ فجاوبتني ودمعُ العين يسبقها/ من يركب البحر لا يخشى من الغرق.
قلت لصديقي، وقد ضقت ذرعاً بخياله المجنح، قبل أن يمضي إلى ما هو أبعد في افتراضاته، مما لا يُحمد عقباه، وقبل أن تصدّق أم العبد أن ثمّة مشروع ضرّة في حياتها: لم أقصد أياً مما أنتجه خيالك المريض، ألا يكون الحبُّ حباً إلا إذا اقترن بامرأة؟ إنما كنت أقصد المضي إلى فضاءٍ يخرجني، والقارئ، مما أثقل على قلوبنا من همٍّ وغمٍّ مقيمين. لم لا نفكر، ولو على سبيل الافتراض، بشيء آخر، غير ما نحن فيه من دمٍ ودمارٍ وثكل وفواتير و"تحرير" أسعارٍ وسعار وتحريضٍ على الانتحار الذاتي، في حروبٍ بينية عرقية ومذهبية مجنونة. قال: إذا كان الأمر كذلك، فــ..حبّ كما تشاء.