غزة النازفة دائماً

غزة النازفة دائماً

20 مايو 2016
+ الخط -
زرت غزة مرتين بعد "أوسلو"، وقبل اعتلاء حركة حماس السلطة في القطاع. نمت هناك ثلاث ليالٍ، وذهبت في زيارتي الثانية في رحلة من غزة إلى القاهرة بسيارة أجرة، وكانت من أجمل رحلات عمري، لا أدري السبب، ولم أحاول تفسيره. الطريق بين غزة والقاهرة مرصوفة بالحنين والحب، فأنا أعرف كم يحب الغزاويون القاهرة، وكم هم قريبون إلى شعب مصر. والطريق بين المدينتين طريق المحبة المختنقة المرفوضة في وقتٍ كثير. خرجت من غزة يومها مملوءاً بحبٍّ لم يفتر إلى الآن لأهلها، ولكينونتها المختلفة عن باقي أراضي السلطة في الضفة الغربية. أحسست بأن غزة معجونةً بالطيبة والحزن المقيم، وبعجقةٍ ليس لها مثيل بين المدن الفلسطينية الأخرى، وربما بين المدن التي عشت فيها أو زرتها.
لم أشعر بغربةٍ، وأنا أتجول في المدينة، كأنني في مكان أليفٍ، أعرفه منذ ولدت، وربما يكون هذا هو السبب وراء كل الإحساس بطيبة أهلها. غزة التي اشتعلت فيها الانتفاضة الأولى التي امتد لهيبها إلى بقية مدن الضفة هي غزة التي كانت خارج سيطرة الجيش الإسرائيلي، في ليالي الاحتلال بعد عام 1967، والتي شغلت بال جنرالات الاحتلال، وكشفت عدم تمكّنهم من الإمساك برقبتها. وغزة هي المدينة الأولى التي أقام فيها ياسر عرفات بعد "أوسلو"، وبُني فيها أول مهبط للطائرات، وعرفت الشيء العزيز على قلوب الفلسطينيين جميعاً، الخطوط الجوية الفلسطينية.
أتذكّر تلك الصورة المملوءة بالأسئلة، وربما الحزن الدفين لياسر عرفات، وهو يطلّ على بحر غزة، والتي كانت تشي بما سيكون عليه مستقبل غزة البائس. غزة التي تعيش حالةً من الدمار الذي لا يتوقف، بسبب الحروب الصاعقة على البشر والعمران. هي التي أحسّها اليوم تنزف بلا انقطاع. كل يوم تأتينا أخبار انتحار الغزاويين، حرقاً أو شنقاً أو تسمماً، كأن قدر هذا الجزء من فلسطين الموت البطيء، حين تخف وتيرة الموت بالصواريخ والطائرات الإسرائيلية، فلا يكاد أهل غزة يخرجون من حمم القصف، حتى ينظرون حولهم، فلا يجدون شيئاً بأيديهم. ولا شيء أمامهم سوى المعابر المغلقة، والعوز القاتل، والموت بسبب فقدان العلاج، أو إمكانية تكاليف العلاج.
أنظر إلى الصور الآتية من غزة اليوم، فأرى ملثمين، ولا أرى وجوهاً، وكأن وجه غزة اختفى وراء غموض اللثام وأسراره التي لا يعرف أهلها إلى أين سيقودهم هذا الغموض المريب، ولا متى سيكون الحريق التالي الذي سيقتل أطفالهم، ويدمّر بيوتهم، ويقتلع زرعهم. دخل المكان في عتمةٍ واقعيةٍ ومجازيةٍ، فكأن الناس في غزة في حالة انتظار شيء ما مجهول المعنى، ولا يدرون إذا كانوا قد ذهبوا إلى هذا الانتظار بمحض رغبتهم، أم أنهم وغزة منذورون لانتظار المجهول.
تحزنني غزة، ويحزنني أطفالها الذين لم يأخذوا فرصةً لكي يكبروا كما يشاء عمر الطفولة العادية، ويدهشني أهل غزة، وهم يقاومون الموت والحصار بالصبر، ومحاولات القيام من الرماد عبر مبادراتٍ فرديةٍ في الفن والرياضة والكتابة، وأشعر بالغضب والأسى، وأنا أرى الأطفال يموتون احتراقاً، بسبب عدم وجود تيار كهربائي، في حين أن أولي الأمر يعيشون في الضوء، وكل ما حولهم عتمة حالكة. ذهبت غزة إلى مقام الحيرة، فلا السلطة فيها مكترثة لعذاباتها، ولا السلطة في رام الله ترى هؤلاء القابعين في الظلام والفقر والحصار.
كيف لنا ونحن الذين نرى، اليوم، المصير المجهول لفلسطينيي سورية ولبنان، وقبلهم فلسطينيي العراق، أن لا ينتابنا وجع الحصار والموت في غزة، وكيف لنا أن نسكت إزاء هذه الفوضى القاتلة في الجسد الفلسطيني، والناس في غزة لا تعرف سوى المآسي والانتحار والجوع والعراء بعد تدمير العمران. يا للنكبة التي تتكرّر.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.