"راس.. روس"

"راس.. روس"

22 مارس 2016

حنان الحروب .. أعلى وسام عالمي في التدريس

+ الخط -
"راس.. روس.. راس.. روس". أقسم إنني حفظت درس الصف الأول الابتدائي جيداً، فلماذا تصرّ معلمتي حنان الحروب على أنني لم أزل "أميّاً"؟. كيف أقنعها بأنني أنهيت مراحل الدراسة كلها، وغدوتُ أحمل شهاداتٍ كبيرة وثقيلة، مدرسية وجامعية، وصار في وسعي أن أعلقها في مكان بارز على حيطان "غرفة الضيوف"، وأتباهى كالطاووس أمام الزوار؟
من أين جاءت هذه المعلمة الفلسطينية البسيطة التي قيل إنها حصلت على أعلى وسام عالمي في حقل التدريس، لتنسف كل شيء، ولتعيدني إلى الصف الأول الابتدائي، متذرّعةً بأنني لم أدخل أي مدرسةٍ في حياتي، ولم أتعلم حرفاً واحداً بعد؟
والمعضلة أنني صدقتها، ومزّقت كل شهاداتي، وعدت كطفل صغير لألتحق بمدرستها، آملاً أن أمحو أميّتي، والأنكى أنني اكتشفت، فعلاً، أنني أميٌ بمرتبة شرف.
أما كيف حدث ذلك، فالقصة تطول. لكن، باختصار، بدأتُ بتعلم الدرس الأول "راس.. روس"، وحين وقفت في الصف منتشياً لأردّد ما حفظته، فوجئت بها تسحب البساط من تحت أقدامي، حين سألتني: "وماذا تعرف عن الرأس؟"، ثم راحت تتابع بغضب وحدة: "ما قيمة رؤوسكم المحنيّة أيها العرب؟.. حاولنا أن نعرّفكم، نحن الفلسطينيين، قيمة الرأس المرتفع وسط عواصف الاحتلال والفقر والجوع، لكنكم أبيْتم غير إبقائه محنياً للمستبدين والطغاة، بل إنكم، ولفرط ضعفكم، استبدلتم فكرة الدرس القائمة على أهمية جمع الرؤوس في سبيل الوحدة، إلى مثلٍ عربي تردّدونه، وتفاخرون به، وأنتم تتبجّحون بقولكم: (حط راسك بين الروس وقل يا قطّاع الروس)".. نعم، فأنتم ما عدتم تنتظرون غير "قطاع الرؤوس"، بعد أن عرضتم رؤوسكم كلها للبيع أو الإيجار لزعمائكم وطغاتكم ومنظومة أعرافكم البالية. رؤوسكم لم تعد أكثر من زوائد دودية، لا وزن لها في حسابات الفكر والتخطيط والعلم. ولذا لم يكن مستغرباً ظهور "قُطاع رؤوس" من نوع جديد، وجدوا في تلك الزوائد لعبة مناسبة لكرة القدم، وها هي رؤوسكم التي رضيتم لها الانحناء أصبحت كرة قدم، تتدحرج بين بساطير الأنظمة وشباشب "داعش"، ليثبت كل طرف تفوقه على الآخر في القدرة على ملء الرؤوس بالقش والتبن".
"أنا ابنة مخيم الدهيشة، وإن شئتم سمّوه مخيم الدهشة، لأنه ينجب دهشة الإعجاز لشعبٍ وضع رهاناته كلها في سلة بيض واحدة. أنتم، يا من تعلمون أطفالكم، منذ نعومة أظفارهم، أن "لا يضعوا البيض في سلة واحدة"، فكانت النتيجة أنهم خسروا رهاناتهم كلها، بعد أن غدوا كائناتٍ متردّدة هيّابة، ترعبها ظلالها، وتنظر إلى كل "جرّة حبل" بأنها أفعى ستلتهمها.. هذه بعض أمثالكم أنتم، ولست آتي بجديد هنا، أما نحن "أبناء الدهشة" فقد اخترنا المجازفة طريقاً واحداً لا حيْدة عنه، فحملنا القلم والسلاح معاً، محوْنا أميّة الخوف من الطغاة، وصرنا نحفظ أبجديات المقاومة مع "راس روس".. نذهب إلى القتال، كمن يذهب إلى غرفة الصف، كي نتعلم درساً جديداً في مقارعة المحتل..".
"وفي خضم معاركنا، كنا ننظر إليكم بعين العطف، فيما تنظرون إلينا بعين الحصار والتجويع، وإغراق الأنفاق، تصفق لنا شعوبكم من بعيد، لكنها تحرص على "مسافة الأمان" بيننا وبينها، كأنها جزء من "عرضها"، أو كمن يشاهد مباراة كرة قدم، ثم يغفو قبل أن يعرف النتيجة. وفي النهاية، محوْنا نحن أميّتنا الوطنية، لأننا بتنا أقدر الناس على إدراك أهمية الوطن والدفاع عنه، والتشبث بترابه، أما أنتم فما زلتم مصابين بهذه الأميّة، لأن طغاتكم جعلوا الوطن لديكم رديفاً للمقابر".
"هل أتابع استعراض متوالية "أمّياتكم"، فأتحدث عن الأمية الاجتماعية، والاقتصادية، والإنسانية، التي تعانون منها.. أعدكم أن يحدث ذلك. لكن، عليكم أن تتقنوا حفظ الدرس الأول قبل كل شيء: (راس... روس)".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.