تبرير الموت أو موت التبرير

تبرير الموت أو موت التبرير

14 فبراير 2016

دمار في حلب بعد غارة جوية (17سبتمبر/2015/Getty)

+ الخط -
قبل عدة أشهر، وإثر سقوط آخر الأحياء المحاصرة من القوات الموالية في حمص بأيدي النظام السوري، بعد تعرّضها للتدمير شبه الكامل، قصفاً بكل صنوف الأسلحة، وبعد تجويعها بشكل منهجي، كتب أحد الباحثين الفرنسيين المتمكنين من أدواتهم العلمية نظرياً، لكنه يُعتبر من فاقدي الضمير العلمي عملياً، أن ما حصل في حمص انتصار للشرعية، وأن خرابها الكامل لا يجب أن يُنظر إليه إلا بأنه الثمن الطبيعي الذي يجب أن يُدفع للتخلص من الإرهابيين. وقد وصلت به "الأمانة" العلمية أن يُشبّه هذه العملية بالقصف التدميري الهائل الذي قام به الحلفاء لمدينة دريسدن الألمانية، في نهاية الحرب العالمية الثانية.
في ماضٍ قريبٍ، كان هذا التوجه التبريري "المنحرف" نادراً في أوساط العاملين على الشأن السوري من إعلاميين أو باحثين في فرنسا خصوصاً، وفي أوروبا عموماً. ولكن، ومع نجاح عملية تحويل الحراك الاحتجاجي السوري، بشقيه السياسي والعسكري، إلى مشهد من العنف العبثي، نشطت آلة البروباغندا الموالية، مُعزّزة بأموالٍ لا حدود لها، مصدرها الرئيسي إيراني أو روسي. فالروسي يستثمر الملايين، وباعترافه الرسمي، في بعض مخابر التفكير الغربية، كما في بعض الباحثين، وحتى السياسيين من متطرفي اليمين واليسار. لا تمييز إيديولوجي ألبتة، لا عند الدافع ولا عند القابض. وقد برّر الروسي هذا التصرف "الخيري" بوجود مؤسسات غربية، تموّل بعض المنظمات الحقوقية الروسية، على الرغم من أن القانون الروسي يزجّ قادتها في السجون.
يُضاف إلى هذا النشاط "العلمي" والإعلامي غير المقونن غربياً حتى الآن، تطور خطاب ديني لبعض "رجالات" الكنيسة السورية أو اللبنانية أو حتى الفلسطينية، الانضواء في عباءة السلطة، إيماناً أو تعييناً أو استفادةً أو خوفاً. هذا الخطاب المستند إلى خوف الأقليات حاكى، وحتى أنه "داعب"، مخيلة بعض "المؤمنين" من أتباع "الكاثوليكية التقليدية" الفرنسية، وهم أتباع المونسينيور لوفيفر الذي طردته الكنيسة في روما لتطرفه. وهم عموماً من منتسبي حزب الجبهة الوطنية الذي تتزعمه مارين لوبين، الممولة بشكل علني بقرضٍ روسي، ربما لا أجل له، قيمته 12 مليون يورو. والذي يستعد وفد من نوابه للتوجه في رحلة تضامنية إلى دمشق.
إذاً، هناك تحالف غير طبيعي بين يمين مسيحي متطرف ومسيحيين متطرفين ويمين مسيحي معتدل لا يرى في المقتلة الجارية في سورية إلا تهديداً للمسيحيين. يُضاف إلى هؤلاء المقتنعين "أيديولوجياً" بمساندة النظام، أولئك المنتفعون "مركانتيلياً" والقابضون على الأثمان الباهظة. كما هناك صنفٌ، نعرفه جيداً في ثقافتنا العربية، وهو الذي يبحث عن مكان تحت الشمس، بحيث أنه باحثٌ أو إعلامي مغمور عموماً، لم يكن له باعٌ ولا صيت، فجاءت المناسبة ليُخالف فيُعرف، وإن قبض ثمن هذا، فلا ضير يُشتكى.
يُضاف إلى هذا وذاك، في هذه القائمة غير المغلقة وغير الحصرية والمرنة، ذاك المنتمي إلى
اليسار البافلوفي المتطرف، أو الأقل تطرفاً. وهو يتأبط الدفاع عن القضية الفلسطينية كرداء شرعي يُمكّنه من إخفاء حقيقة تفكيره القائم على مزيج من جزيل كره لحرية الآخر وعنصرية مكبوتة وضحالة ثقافية واستشراق مشوّه، إضافة إلى رُهابٍ من الإسلام منغمس في خطاب علمانوي متطرف. وهو يعتقد أن مساندته الصوتية القضية الفلسطينية يمكن أن يُعفي ضميره من المساءلة الأخلاقية أمام مآسي الآخرين من غير الفلسطينيين، وحتى أنه يغفل متعمّداً عما يحصل للفلسطينيين في سورية، وفي مخيماتهم المدمرة. ويكاد يرسم على وجهه صورة الساذج البريء إن حدثته عن مجازر تل الزعتر، أو حرب المخيمات أو نهر البارد التي كان ضحاياها من الفلسطينيين، وعلى أيدي قوى "الممانعة" التي يتشدّق في الدفاع عنها، أو الذود بسراويلها. فكل هذا لا يعني له شيئاً، ولا يُحرّك في ضميره قشةً.
إلى التطرّف الفكري أو الديني والمنفعة الوظيفية أو المادية المباشرة والسذاجة البافلوفية والنفاق التضامني، يمكن أن يُضاف الخوف من تحمل مسؤولية اتخاذ أي موقف، أو الاختباء وراء الخشية من تعقيدات المشهد، أو الجهل المتعمّد أو البنيوي بأدوات التحليل، فيكون القبول بالطاعون "الاستبدادي" عوضاً عن الكوليرا "الدينية"، كما هو منتشر في أدبيات إعلامية وبحثية متداولة بكثرة في أيامنا هذه، هو أهون الشرور.
قبل أيام قليلة، كتبت صحافية فرنسية مغمورة، تبحث عن أضواء ذات اليمين وذات اليسار، أن تدمير مدينة حلب بالقصف الروسي المنهجي، وخروج مئات الآلاف من أهلها إلى العراء بحثاً عن لجوء في أرض الله الواسعة، لا يعدو كونه عملية شرعية لتطهير المدينة من الإرهاب ومن الإرهابيين. وأضافت أن آلة الموت الروسية المستعرة تشبه، إلى حدٍ بعيد، ما قام به الحلفاء، وخصوصاً الأميركيين، تمهيداً للإنزال البحري على شواطئ النورماندي الفرنسية في نهاية الحرب العالمية الثانية أيضاً. وأضافت أن كثيراً من مدن الشمال الفرنسية قد دُمّر تماماً، وهذه كانت ضريبة الحرية (...).
أضحت فاشية الخطاب كلاماً عادياً، فهي انتقلت من أشباه الباحثين إلى أشباه الإعلاميين. وليس من الغريب أن الباحث الفرنسي الشامت بتدمير حمص استقطبه مركز بحثي أميركي مرتبط باللوبي الليكودي في واشنطن.