حلب تؤجّج نيران "المظلومية السنيّة"

حلب تؤجّج نيران "المظلومية السنيّة"

21 ديسمبر 2016
+ الخط -
حدث في حلب ما لا يعدّ ولا يحصى من جرائم وقهر وفظاعات غير مسبوقة، عزّزت لما سيعرف من الآن فصاعداً بـ "المظلومية السنية"، هذه المظلومية التي استثمر فيها تنظيم الدولة الإسلامية كثيراً، وحقّق من خلالها نجاحاتٍ جزئية، فجاءت معركة حلب لتصادق على صحة تلك المزاعم التي ستهيمن، من الآن فصاعداً، على قلوب وعقول قطاعات واسعة من عرب المشرق العربي عموماً، والعرب السنة في كل من العراق وسورية خصوصاً. إذ لم تتمكن كل الشعارات السياسية التي رفعت في سماء الحرب الدائرة في العراق والشام، منذ سنوات، من التستر على ألوان تلك الرايات الطائفية المرفرفة على جحافل المليشيات الدائرة في فلك إيران، ذات المشروع الإمبراطوري التوسعي، كما لم ينجح دخول كل من أميركا وروسيا على خط الحرب ضد الإرهاب، في صرف الأنظار عن حقيقة أن المستهدفين حقاً هم العرب السنة، وما التذرع بالقضاء على "داعش" سوى الوسيلة التي تبرّر الغاية هذه المرة. إذ ليس هناك من بين ملايين النازحين واللاجئين مواطن واحد من غير أبناء الأكثرية العربية السنية، وليس هناك ضحية وقعت، خارج نطاق المعارك الدائرة، من غير أتباع هذه الأكثرية، وينطبق الأمر ذاته على المعتقلين والمغيبين قسرياً، ناهيك عن الأيتام والأرامل والمغلوبين على أمرهم، في طول هذه البلاد وعرضها، الأمر الذي يقول بالفم الملآن، وبلغة غير أعجمية، إن هذه الحرب التي تعيد هندسة الواقع الديموغرافي في المشرق، هي حرب الشيعة ضد السنة، على طول الخط.
ومع أن حقيقة هذه الحرب ساطعة سطوع الشمس، منذ أخذت إيران تكوّن حشود مليشياتٍ تحت أسماء مذهبية فاقعة، وتدفع بهم من أفغانستان وباكستان، ومن كل فج شيعي عميق، إلى ساحة المعارك الدائرة تحت شعار حماية "العتبات المقدسة"، إلا أن القوى السياسية والاجتماعية في مختلف البلدان العربية لم تجد فائدةً في تسليط الضوء على جوهر هذا الصراع المحتدم، فغضت البصر وأغلقت السمع، كون ذلك كله يصب مباشرةً في طاحونة خطاب تنظيم الدولة، ويضفي عليه مزيداً من الوجاهة المحرجة حتى للضحايا أنفسهم.
ولعل هذا الحرج الذي حشر الكتّاب والمثقفين والدبلوماسيين وقادة الرأي العام في زاوية 
أخلاقية ضيّقة، ومنعهم من تسمية هذه الحرب باسمها الحقيقي، حتى لا تزداد النار اشتعالاً، ويذهب الجميع إلى مواجهاتٍ داميةٍ لا نهاية لها، كان من بين الأسباب المهمة التي مكّنت نظام الولي الفقيه المضي أكثر فأكثر في التقدم على الأرض، وفي الفضاء السياسي والدعائي أيضاً، من دون أن يلقى ما ينبغي إقامته من مصدّاتٍ فكرية ملائمة، وأن يواجه بما كان يجب رفعه من شعاراتٍ مناهضة، حتى بعد أن أعلنت طهران، جهاراً نهاراً، عن هيمنتها على العاصمة العربية الرابعة.
وكان لسياقات هذه الحرب، وكثرة المتدخلين في دهاليزها المعتمة، وتعدّد هوياتهم، أن تبقي على ورقة التوت الجافة، معلّقةً أمام أنظار المراقبين المتعففين عن الانجرار وراء فواعِلها المذهبية الصارخة، إن لم نقل التخفيف من وقع مضاعفاتها نصف المكشوفة، إلا أن واقعة تدمير حلب، وهي إحدى أقدم الحواضر العربية السنية، وتهجير مئات الألوف من سكانها أمام عدسات المصورين الميدانيين، أتت لتضع النقاط على حروف الجملة القديمة الناقصة، وهي أن هذه أحد تجليات حرب الثارات التاريخية غير المسدّدة منذ 1400 سنة.
لم يأخذ كثيرون على محمل الجد إعلان إيران الرسمي عن تأسيس الجيش الشيعي، الذي سيواصل الحرب من الموصل إلى حلب ومن ثم إلى اليمن، واستهزأ بعضهم بتشخيص نوري المالكي المشهد حرباً بين أحفاد الحسين بن علي وأحفاد يزيد بن معاوية، ولم يلتفت أحد، بما فيه من الكفاية، إلى مغزى عمليات التهجير المستمرة من الأنبار ونينوى وصلاح الدين، ومن حمص وضواحي دمشق وغيرها، بكل ما ينطوي عليه الأمر من عمل منهجي متدرّج المراحل، على طريق تغيير التوازنات السكانية لصالح الأقليتين، العلوية والشيعية.
وأحسب أن واقعة حلب، بكل ما انطوت عليه من فجور مذهبي فاق كل ما سبقه من وقائع مماثلة، جاءت على نحو أكبر من قدرة أشد المتسامحين والمهوّنين وكليلي البصر، على التغاضي عن نتائجها الكارثية. كما أحسب أيضاً أن أغلبية بقايا القوميين واليساريين، المصطفين إلى جانب فصائل عصائب أهل الحق والنجباء والحوثيين والشبيحة، يمكنهم ازدراد هذه اللقمة الكبيرة بسهولة، وتسويقها على أنها صفحة مشرقة من صفحات محور المقاومة والممانعة، وهو المحور الباحث عن الطريق إلى القدس، عبر الزبداني ومضايا وتلعفر والفلوجة.
ذلك أن مفاعيل معركة حلب وتداعياتها التي احتفل بها الإيرانيون في الشوارع، وتبادل أنخابها 
الزينبيون والفاطميون والحيدريون ومن لفّ لفّهم، على الملأ كافة، ستحفر عميقاً في وجدان الأمة، وستراكم أكثر فأكثر في الوعي العام، لا سيما في المشرق العربي، مشاعر الاستلاب والحس بالمظلومية السنية، الأمر الذي من شأنه تقويض الاعتدال والوسطية، وتأجيج النيران المشتعلة أساساً، وربما إعادة إنتاج خطاب "داعش" بصورة أشد راديكالية، خصوصاً عندما تتكشف أهوال ما جرى في حلب، ويتضح غور الجروح السورية والعراقية النازفة بغزارة.
وبجملةٍ أخيرة، فقد نجحت المليشيات الشيعية في حلب، وتحت تغطية سلاح الجو الروسي، ليس فقط في تدمير المدينة ذات الرمزية التاريخية، أو تدمير بنيتها العمرانية الباذخة فحسب، وتهجير مئات الألوف من أحيائها العتيقة أيضاً، وإنما نجحت كذلك في تشكيل وعي مشترك بين الملايين، مفاده أن الشيعية السياسية دخلت طوراً أشد عدوانيةً من قبل، وإن مقاومة هذا المد الصفوي المتوحش يقتضي، بالضرورة الموضوعية، الاستجابة بصورةٍ أكثر فاعليةً لمثل هذا التحدّي المصيري، وهو ما سوف يفتح الأبواب أوسع أمام حروبٍ أكثر مرارة، وأشد هولاً من كل ما جرى حتى غداة سقوط حلب بأيدي التحالف الشيعي المتعاظم قوة.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي