حلب الانكسار، لا الانتصار

حلب الانكسار، لا الانتصار

20 ديسمبر 2016
+ الخط -
تضع الفضائية السورية، منذ أكثر من عشرة أيام، عبارة "حلب الانتصار" عنواناً عريضاً على شاشتها، أي منذ أن تخلَّى العالم أجمع عن مدينة حلب، وعن المعارضة السورية المسلحة الموَرَّطة،ِ المورِّطة، في الأصل، على هذا النحو، أو ذاك، وتركها لاتفاقات دولية، ولتقاسم نفوذ ومصالح بين الضواري الدولية والإقليمية، ممن تدخلوا في الشأن السوري على نحو مباشر أو غير مباشر، ومنذ أن قرّر الروس، ومعهم المليشيات الإيرانية/ استباحة حلب، والتمثيل بأهلها، بالمطلق.
لم تنتصر حلب، بحسب ما يزعم النظام وأنصاره، وأعوانه، وحلب التي أعنيها هنا، هي الوطن السوري، هي الأمة السورية بأكملها، سواء على سبيل المجاز أم الحقيقة..! نعم إنَّ حلب لم تنتصر، بل تمكَّن الأجنبي، أو مكّنه النظام منها، منذ اختياره الحل الأمني أسلوباً وحيداً للتعامل مع شعبه الذي هبَّ، منذ قرابة ست سنوات، يطالب، سلمياً، بحقوقه المهدورة على غير صعيد! نعم إنها الحقيقة البيِّنة لكل ذي عين مبصرة، يؤكد ذلك ثلاثة أمور. أولها: جرى الاتفاق الأميركي الروسي، أخيراً، حول خروج المدنيين، والمسلحين من حلب، بمعزل عن النظام السوري.. بحسب الإعلام السوري نفسه، لا غيره! إذ نفى المسؤولون السوريون أن يكون لهم علم بهذا الاتفاق، لكن المعنيين الروس صفعوهم بتأكيده، وكأنما قالوا لهؤلاء المسؤولين ساخرين: ومتى كان لكم علم أو دراية بالشأن السوري؟ ثم ما دخلكم؟! وبالطبع لا تغير من الأمر شيء تلك المراوغات التي قام بها كل من النظام والإيرانيين على السواء، حول تنفيذ الاتفاق، تحت مزاعم باطلة.
يتجلى الأمر الثاني بتلك الفظائع، أي الإعدامات الميدانية الجماعية التي ارتكبتها المليشيات المختلفة بحق أكثر العائلات الحلبية عراقة، وأصالة.. أما الأمر الثالث فأكثر ما ظهر في وقوف المليشيات الإيرانية بوجه تنفيذ الاتفاق من منطق طائفي، تبريراً لعدوانها ولأطماعها، وتثبيتها ما حصلت عليه من نفوذ حتى الآن، ومنها تنصيبها النفس "وكيلاً حصرياً" عن شيعة الأرض كلّهم..! على ذلك أقول: إنَّ حلب، بما ترمز إليه، لم تنتصر، كما يزعم الزاعمون الراقصون على أشلائها بناءً وبشراً، بل انكسرت، نعم انكسرت حلب، وانكسرت لأجلها قلوبٌ كثيرة، قلوبٌ لا تزال مفعمةً بشيء من حب وضمير إنسانيين، وهذا أمر واقع، وحقيقة جلية، لكنَّ الانكسار غير الاندحار أو السقوط، بل هو وقفة مع الذات، وقراءة للأسباب التي أدت إليه، المباشرة وغير المباشرة.. وإذا ما أردت إيجاز الأسباب، فلن آتي بجديد عما قيل سابقاً، ويقال الآن، وربما سيظل يقال: عن عسكرة الثورة السورية بإرادة النظام ذاته، ورعونة التطرّف الديني، والإسلام السياسي عموماً، إن لم أقل بأشياء أخرى كثيرة دخيلة على الثورة والثوَّار، لكني أتابع فأقول: وكذلك بإغماض عين القوى العلمانية واليسارية والديمقراطية عموماً عن هذا الأمر، واستمرار ذلك، على الرغم من رؤية نواقص كثيرة سادت عملية العسكرة والمتعسكرين، إضافة إلى الأحقاد القديمة التي طغت على التفكير العقلاني، ليس في مواجهة الاستبداد وحسب،
بل في عدم قراءة موازين القوى، الداخلية منها والخارجية، قراءة صائبة، قراءة لم تستند إلى عقل سياسي حصيف. وفوق هذا وذاك، تأتي فرقة الصف، لا بين ذوي التفكير المختلف أصلاً، بل بين أصحاب الرأي الواحد أو الرؤية الواحدة..! ولم تستطع المعارضة تقديم نفسها للعالم، ولجمهورها السوري على نحو خاص، لا سياسياً ولا فكرياً، ولم تقدم رمزاً لها من بين شخوصها الكثيرين!
لست الآن، على كل حال، في مجال الندب والنواح على ما جرى، ولا في تحميل أسباب هذا الانكسار لهذا الجانب أو ذاك، فما جرى لا يعدو أن يكون كبوةً، وانكساراً عابراً، يستفاد من دروسه، على طريق ما يهدف إليه الشعب السوري، ولعلَّ المهمة أمام الشعب السوري، اليوم، وإن صارت أكثر صعوبةً، فإنها أكثر وضوحاً، إذ أضاف نظام الاستبداد إلى موبقاته مبررات ومرتكزات كثيرة لمتابعة الكفاح ضده.. فإذا كانت مبرّرات الثورة السورية قائمة قبل العام 2011، وتتلخص بكم الأفواه، ومجابهة أصحاب الرأي المخالف بالسجون والمعتقلات والتصفيات عموماً، إضافة إلى مصادرة السياسة بالمطلق، وبسط النفوذ على مؤسسات الدولة الغائبة مدنياً وإدارياً، وخصوصاً على القضاء والإعلام والتربية والتعليم بمراحله كافة. ناهيكم عن النهب المنظم والمبرمج للمال العام عبر خواص الخواص، والشركاء الكبار، وبالتوغل الأمني الذي كان شبحه يطول الجميع ودونما استثناء..
أقول: إذا كانت كل هذه المبرّرات الفاقعة قائمة موضوعياً، فإنها اليوم أشد وأقسى بما أضيف إليها من خرابٍ وأوجاع وبؤس اقتصادي غير مسبوق. ويأتي فوق ذلك كله الاحتلال بأشكاله كافة، نعم الاحتلال الذي لا أحد يستطيع أن يعطيه اسماً آخر، الاحتلال الذي لم يقبله الشعب السوري على مدى تاريخه الحيث، ليقبله الآن. فمهما قيل من مبرّرات عن أسباب مجيء الروس والإيرانيين، ومختلف المليشيات المدججة بالأسلحة والأحقاد الطائفية والنهم إلى الدم، فإنها اليوم تشكل احتلالاً فاق في وحشيته كل ما فعله أي مستعمر آخر مرَّ على سورية، إذ يصل، في بعض حالاته، إلى الاستعمار الاستيطاني. أشير هنا إلى المليشيات الإيرانية والأفغانية وحزب الله تحديداً، وإلى تصريح سابق لرأس النظام، يفيد بما معناه: "إنَّ الوطن لمن يحميه، ويدافع عنه". وأعتقد أن هذا الأمر غير غائب عن أحد، فإحساس السوريين تجاه المستعمر قوي نقي، لا يقبل حلولاً وسطاً.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ النظام نفسه الذي أتى بكل هذه الأوزار، وما تحمله من أثقالٍ، لم يعد قادراً معها على الاستمرار في الحكم، ومن بينها وزر مقتل مئات الضباط، وآلاف العسكريين من الطائفة العلوية ذاتها..!
ثمّة مرحلة جديدة تبدأ، صعبة وشاقة، مرحلة إكمال المشوار الذي بدأته جماهير الشعب السوري في النصف الثاني من مارس/ آذار عام 2011، مرحلة تمتزج فيها مسألة التحرّر الوطني، وتطهير الأرض من أرجاس المحتلين، وتنزع نحو دولةٍ مدنيةٍ تسود فيها ديمقراطية حقة بقوانينها الموضوعية التي تأخذ بالحسبان أطياف الشعب السوري، قومياً ودينياً وطائفياً، لتوظفها في إعادة إعمار الوطن السوري، وتنميته، وحماية أمنه وسلامه.

1D1ED1EA-2F95-436E-9B0D-9EA13686FACD
محمود الوهب

كاتب وصحفي وقاص سوري، له عدد من المؤلفات والمجموعات القصصية