يوم نعت غورباتشوف حافظ الأسد بالكافر

يوم نعت غورباتشوف حافظ الأسد بالكافر

06 سبتمبر 2022

غورباتشوف في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر دولي في صوفيا (7/10/2020/Getty)

+ الخط -

يوم جاء غورباتشوف إلى حكم الاتحاد السوفييتي، كان من جيل الشباب (أصغر عضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي، 55 سنة). ومنذ اعتلائه كرسي الأمانة العامة للحزب الشيوعي السوفييتي، أخذت أركان الاتحاد السوفييتي بالتداعي، لا بسبب نهجه الإصلاحي الجديد طبعًا، وإنْ لا يزال في أنظار كثيرين السبب المباشر في انهيار الاتحاد السوفييتي، بل لأن جوهر الأمر يتعلق بتأخر زمن الإصلاح كثيرًا عن موعده. وعندئذ، لم تعد تنفع معه أية إصلاحات، فكان الهدم الكلي ضرورة موضوعية، ليأتي البناء متينًا وراسخًا.. في تلك الأوقات التي صارت من التاريخ اليوم، هبَّ زعماء بلدان عديدة في العالم الثالث ممن تربطهم علاقات وثيقة بالاتحاد السوفييتي، لاستطلاع الموقف الجديد لدى القيادة الجديدة، ومنهم حافظ الأسد الذي كان يعلن، على الملأ آنذاك، أن الذي يشغله هو تحرير الأراضي العربية المحتلة، وقد سعى إلى بناء توازن عسكري استراتيجي مع إسرائيل بعد أن كان أنور السادات قد خذله، إذ لم تكن نياته صادقة تجاه هدف حرب تشرين التحريرية، وغايتها الرئيسة، وغدت زيارة السادات إسرائيل، فيما بعد، متكأً للأسد، ومجالًا لتهرُّبه من مسؤولياته رئيس دولة مواجهة، ولم يكن ليعد العدّة لا على صعيد المجتمع أو الاقتصاد ولا على صعيد الجيش، وهذا الأهم، رغم استهلاكه ثلاثة أرباع ميزانية الدولة، إذ انشغل كثيرون من كبار ضباطه بجمع الثروات والدخول في شراكات مع التجار والسماسرة، وسعوا إلى بناء القصور في ريفي اللاذقية وطرطوس الفقيرين.
في ذلك الوقت، كانت قيامة الأحزاب الشيوعية قائمة، فلا تعرف من مع البيروسترويكا ولا مَنْ ضدها! فكثير من أجيال القيادات السابقة الراسخة اتهمت غورباتشوف بالعمالة لأميركا والغرب أو بالصهيونية، بينما الأجيال الشابة، وعموم المثقفين، كانوا مع التجديد، ويتابعون ما كان يُنشر في الصحافة السوفييتية المترجمة إلى العربية من دراسات وتحاليل تغوص في عمق السنين السبعين من ثورة أكتوبر الماضين لتكشف عمق خلل البناء السابق، وفي مقدمته غياب الحريات وسطوة البيروقراطية المعشّشة في مفاصل الدولة كلها، إضافة إلى ما سوف يكشفه غورباتشوف أمام ضيفه الرئيس السوري حافظ الأسد لدى زيارته موسكو عام 1987.. صحيحٌ أن ما قيل قد ظلَّ طي الكتمان، ولكنه تسرّب فيما بعد، وخصوصًا لدى دائرة ضيقة من قيادة الحزب الشيوعي السوري الذي كانت إحدى قيادته ضمن الوفد.

السياسة السوفييتية السابقة كانت تطبخ في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم الوحيد، وغالبًا ما كان صوت الأمين العام هو المرجّح

اليوم، مع وفاة غورباتشوف، تستعاد تلك الذكريات، فبعض ما قيل يضيء مجمل الأوضاع السورية اليوم، وخصوصًا العدوان الإسرائيلي المتكرر على سورية، وإن على مواقع تعود إلى إيران وحزب الله وسواه من المليشيات.. ولكن من دون أي رد من الجانبين السوري أو الإيراني. ونوجز هنا ما جاء في كتاب الدبلوماسي الروسي فيكتور إسرائيليان، "داخل الكرملين خلال حرب أكتوبر وما بعدها"، وكان حاضرًا في ذلك الاجتماع.. 
لما استوى حافظ الأسد أمام الرئيس السوفييتي الشاب، تحدّث مطولًا عن حاجته إلى السلاح المختلف كمًّا ونوعًا للأسباب أعلاه عن السادات، إذ لم يبق سوى الأسد في مواجهة إسرائيل، ولذلك هو يسعى إلى إيجاد ذلك التوازن الاستراتيجي لاسترداد الأراضي العربية المحتلة، ولم ينس تذكير الرئيس الروسي غورباتشوف بأن دولته السورية فقيرة ونامية، وتحتاج إلى نوع من الرعاية لتنهض، وتقف على قدميها.
كان غورباتشوف يعرف "البير وغطاءه"، وكان قد هيَّأ أمرًا آخر له علاقة بما يقوم به من محاولات لسد الثغرات التي أحدثها النهج السابق في بلاده، وهو الذي يحاول إعادة البناء في أفق من الحرية والعلنية (الغلاسنوست)، فالسياسة السوفييتية السابقة كانت تطبخ في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم الوحيد، وغالبًا ما كان صوت الأمين العام هو المرجّح، بل إن كلمته هي العليا.. والشعب يردّد ما يقدِّمه الحزب له.. وذلك كله كان على جدول أعمال غورباتشوف وخططه. وهو على دراية عميقة بكل الأسباب وراء تخلف الاتحاد السوفييتي في سباق الحرب الباردة عن أوروبا وأميركا، ومنها أن الاتحاد السوفييتي عوَّل كثيرًا على بلدان العالم الثالث التي كان يغدق عليها بما تحتاجه، ومن خلال تسهيلات مغرية لا تحت دعوى أنها بلدان فقيرة، وهي بحاجة لتنمية بلادها فحسب، بل لأنه يريدها إلى جانبه في صراعه العالمي، فكانت ديونه عليها تبلغ أضعاف الديون التي على الاتحاد السوفييتي نفسه، وبلغ الدين السوري بمفرده 13 مليار دولار، إضافة طبعًا إلى دعم الأحزاب الشيوعية في تلك البلدان، والأهم من ذلك كله تلك الحال البيروقراطية التي أشير إليها وتسود عموم مفاصل الدولة وآلتها الإنتاجية، باستثناء الآلة العسكرية طبعًا.

يعرف حافظ الأسد جيدًا محتوى الدرس الوطني الذي أراده غورباتشوف، لكنه أراد حماية كرسي حكمه، وأناسًا تمجِّده

عند ذلك، دخل غورباتشوف في الرد الموجع مباشرة، وبالأرقام والأسماء، فأشار إلى أن السوريين يقفون طوابير في ذلك الوقت أمام مؤسّسات الدولة الاستهلاكية للحصول على القليل من المواد التموينية الضرورية، من سكر وأرز وشاي وزيت نباتي.. إلخ في وقت تستورد فيه الدولة سيارات مرسيدس وبيجو وغيرها من البلدان الأوروبية واليابان وكوريا الجنوبية بالعملة الصعبة، إضافة إلى استيراد مواد كمالية لزوم النخبة الحكومية والعسكرية كالأدوات المنزلية والرخام الإيطالي. والتفت إلى الأسد يسأله: لماذا لا يركب أعضاء الحكومة السورية سيارات مثل "لادا" أو "فولكا" الروسيتين اللتين يركبهما الوزراء عندنا وأعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي؟! وهل من العدل والإنصاف في شيء، خصوصًا في العلاقات الأخوية بين صديقين، أن يشتري أحدُهما السلاح من صديقه بالدَّين، بينما يدفع الدولارات لخصوم صديقه من أجل سلع استهلاكية لا ضرورة لها؟ ثم ذكَّره بالفيتناميين الذين حرّروا بلادهم وكانوا شبه حفاة وجياع يقتاتون بالأرز المنقوع بالماء فحسب، وقد استطاعوا أن يُخْرجوا الأميركان من بلادهم مخذولين ومخلّفين نحو ثلاثمئة ألف قتيل بشجاعة الفيتناميين واستغلالهم الطاقات الموجودة لديهم.
يعرف الأسد جيدًا محتوى الدرس الوطني الذي أراده غورباتشوف، لكنه أراد حماية كرسي حكمه، وأناسًا تمجِّده، ومن لهذه المهمة غير الفاسدين المفسدين، وهكذا استمر الوضع مع بشار الذي زعم إنه يريد إصلاحًا وتطويرًا، لكنه حذا حذو الأب، فدمَّر الوطن وأهله، وأدخل الأغراب من كل صنف ولون.
وكان غورباتشوف قد وضع أمام المترجم الداغستاني الذي يجيد اللغة العربية تمامًا، كل الوثائق عن تلك الصفقات السورية مع البلدان الرأسمالية، وفي النهاية، طلب منه أن يقرأ عليه الآيتين 21 و22 من سورة النجم: "ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذًا قسمة ضيزى". والآيتان استنكاريتان توبيخيتان. وعندها اكفهرَّ وجه الأسد وتلوَّن، ويعلق مؤلف الكتاب بقوله: "لا أعتقد أن الأسد تعرّض في حياته إلى "دش ماء بارد" وموقف صادم من هذا النوع، سواء في علاقاته مع الاتحاد السوفييتي أو غيره، خصوصًا حين جرت مقارنة سلوكِه بسلوك "كفار مكة".
وما حدث مع الأسد الأب حصل ويحصل مرارًا مع ابنه الذي دمّر الروس بلاده، واستولوا على ثرواتها، وأهانوه في بلده وما زالوا. وهذا شأن كل من لا يحترم شعبه ولا يحتمي به.

1D1ED1EA-2F95-436E-9B0D-9EA13686FACD
محمود الوهب

كاتب وصحفي وقاص سوري، له عدد من المؤلفات والمجموعات القصصية