احتفاءً باليوم العالمي للفلسفة

احتفاءً باليوم العالمي للفلسفة

24 نوفمبر 2016

(محمود بوشيبة)

+ الخط -
تَحُلُّ، في الخميس الثالث من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني في كل سنة، ذكرى اليوم العالمي للفلسفة، حيث يستحضر المهتمون واقع تعليم الفلسفة ومساره في بلدانهم، ويعملون على مزيدٍ من التحسيس والعناية بالفلسفة ومآثرها في حياة الأفراد والجماعات. وإذا كان واقع تعليم الفلسفة في العالم العربي يثير مشكلاتٍ متعدِّدة ترتبط، في الأغلب الأعم، بكثير من الأحكام القَطْعِيَّة والمواقف القَبْلِيَّة عن الفلسفة وتاريخها، فإن كثيراً من مظاهر القصور في أنظمة الثقافة والسياسة والاقتصاد في مجتمعاتنا تُعَدُّ محصّلةً لعدم قدرتنا على توطين القيم الفلسفية في أنظمة تعليمنا، في جميع أطواره وأسلاكه وتخصُّصاته.
نفترض أن حلول اليوم العالمي للفلسفة يقتضي منا أن تكون مناسبة الاحتفاء به فرصةً لوضع الخطط التي تساعد في عمليات دعم حضور الفلسفة وقِيمِها في ثقافتنا ومجتمعنا، حيث نُواصل العناية بأسئلة الفلسفة وفتوحاتها، لعلنا نتدارك بعض صور التراجُع التي لحقت بتعليمها وتَعَلُّمها في أنظمة التعليم العربية وبدون استثناء.
تتعرَّض الفلسفة، باستمرار وخلال تاريخنا القريب والبعيد، إلى أشكال من المحاصرة، الأمر الذي يُساهم في تعزيز ثقافةٍ سائدة، لا علاقة لها بِقِيم التاريخ والمستقبل. ويدرك المتابعون لتطوُّر الكتابة الفلسفية في عالمنا أن التحوُّلات التي عرفها الخطاب الفلسفي في عالمنا، والمتمثِّلة في عنايته الجديدة بمباحث مرتبطة أشد الارتباط بأسئلة التحوُّل الجارية في حاضرنا ومآزقه، تدعونا إلى مواصلة الاهتمام بمكاسب الدرس الفلسفي ومكاسبه المنهجية، وقدرته على بناء المفاهيم والأسئلة، بطريقةٍ تساعد على مزيد من التطور الفكري لمواجهة ما يعترض مجتمعاتنا من إشكالاتٍ وصعوباتٍ، تُحِيل بيننا وبين عمليات استكمال تحرُّرِنا الفكري والمجتمعي.
يُرَادِف الاحتفاء بهذا اليوم في مجتمعنا الاحتفاء بالعقل وبالتاريخ، أي الاحتفاء بكل ما يساعدنا على محاصرة أنماط الفكر المُعادية للعقل وللتاريخ، حيث تنتعش وتتسع في ثقافتنا اليوم ظواهر كثيرة مُعادِية للعقلانية ومُناهِضة لمنطق التاريخ وأحكامه.
أدت عقود متواصلة من محاصرة الفلسفة في مدارسنا وجامعاتنا إلى تبلوُر أساليب في الفكر
وفي العمل، مُعادية للتاريخ وللفكر وللإنسان، ولن نستطيع تجاوُز ما حصل، والتخلص من تبعاته، إلاَّ بمواجهة صور التَّوَاكُل والطُّرُقِيَّة ونقدها، وقد أصبحت عنواناً بارزاً في حاضرنا. وفي مقابل ذلك، ينبغي العمل على مزيدٍ من تعزيز مكانة العقل والتاريخ والتقدُّم في ثقافتنا وفي حياتنا العامة. وتساعدنا العناية بالقيم التي ذكرنا في معاركنا المرتبطة باستكمال عملية تحديث مجتمعاتنا.
يتطلَّب توسيع المجال الفلسفي وآلياته في النظر، مواصلة الجهود الرامية إلى استئناف وتوطين القول الفلسفي في ثقافتنا. فلا يُعقل أن تظلّ عقولنا متشبثة بآلياتٍ في الفكر لم تعد ملائمة لمتطلبات الأزمنة الجديدة، من دون أن نتمكّن من الانخراط الفعال، في بناء أدواتها في الفهم والعمل وصناعة أحداثها في التاريخ.
كان تخوُّف المناهضين لدرس الفلسفة يقوم، في الأغلب الأعم، على مصادرةٍ قبليةٍ ترى في القول الفلسفي طريقةً في النظر النقدي الهادف إلى خلخلة سقف التقليد التراثي المهيمن وتجاوزه، مغفلين مزايا إطلاق الفاعلية النظرية للإنسان، والدفع بها في اتجاه بناء الوعي المطابق لأسئلة الحاضر المحلي والكوني، حيث لا يمكن إغفال مكاسب المشترك الإنساني، باسم وَهْم صيانة الذات وحمايتها من غزو الغزاة.
الانغلاق الثقافي إفقار وموت، والبديل التاريخي الممكن يَكْمُنُ في العمل على استيعاب دروس تجارب البشر في النظر إلى كيفيات تفكيرهم في أحوال معاشهم. نتصوَّر أن الاستيعاب التاريخي المذكور يؤهلنا لتحقيق مشروعنا في النهوض، ويهبنا القوة اللازمة لاستمرارنا في الحياة وبالصورة التي نرتضي ونشاء.
حاجة الثقافة العربية إلى الفلسفة اليوم مسألةٌ لا ينبغي تقديم أي تنازلات في موضوعها، فلم يعد هناك أحدٌ يجادل اليوم في ضرورة الاستفادة من الفكر النقدي والفكر التاريخي، فكر النسبية في المعرفة ومواثيق العمل الجماعي الإرادية والواعية في السياسة والأخلاق، مواثيق وعهود مواجهة مختلف أصناف وصور الفكر الواحد، والرأي الواحد، والعقل الكلي، والنص المطلق. ولعل اكتساب أوليات التفكير الفلسفي يمكن أن يساهم في تعويد الناشئة من الأجيال الجديدة، على إدراك أهمية التعدّد والحوار والاختلاف والتسامح، ودور التاريخ في تنويع وتطوير مضمون المبادئ والقيم والعقائد.
تُمَكِّنُنَا دروس الفلسفة الحديثة والمعاصرة، في حال تعميم الوعي بمبادئها ومفاهيمها الأساسية، من دعم الاختيارات السياسية الديمقراطية في فضائنا السياسي، ذلك أن سلاح العقل النقدي لعب في الفلسفة المذكورة دوراً بارزاً في الدفاع عن السياسة، باعتبارها مجالاً مستقلاً، لبناء التوافقات والمواثيق التاريخية التي تبلورها الإرادات البشرية داخل المجتمع، خدمة لمصالح وأهداف معلنة ومُحدَّدة.

دلالات

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".