في مسابقات الموت... ثمّة مشجعون أيضاً

في مسابقات الموت... ثمّة مشجعون أيضاً

03 نوفمبر 2016
+ الخط -
لم أكن لأصدّق، في أسوأ كوابيسي، أن ثمّة بشرا أسوياء، بكامل "إنسانيتهم!" يمكن أن يتحولوا إلى جمهور يصفق للموت، ويشجع عليه، ويحتفي به بانفعال وتفاعل وفرح، بدلاً من أن يسقي شجرة الحياة، ويهش الكسل والموات عنها.
حتى لو صح أن هناك بشراً قادرين على التمثيل بجثة بشري آخر، وبقر بطنه وأكل قلبه وكبده، كما يزعم فيديو بثه ناشطون على شبكات التواصل أو "التقاطع" الاجتماعي لشيعةٍ يمثلون بجسد سني (!) كيف لصاحب قلم أو رأي أو عقل، أن يبادر لنشر مثل هذه الأفلام التي تظهر أسوأ ما في الإنسان من مشاعر وحشية، لا وظيفة لها إلا إذكاء مشاعر الجنون والانتقام، وإذكاء نار الفتنة الطائفية والمذهبية، المستعرة أصلا في قلوبٍ أعماها الحقد وقتل فيها كل مشاعر لا تمت بصلة إلى عالم البشر؟ كيف يستسيغ إنسيٌّ، مهما كانت عقيدته ومذهبه وطائفته، أن ينجرّ إلى هذا الدرك الأسفل من الانحطاط، فيروج فتنةً تصنعها أجهزة استخباراتٍ في أقبية التآمر لديمومة حروبنا الطائفية، التي لا تخدم إلا منتجي الأسلحة، وعصابات القتل الأممي التي لا ترى فينا، سنةً كنا أو شيعة، كفارا أو مؤمنين، علمانيين أو محافظين، إلا سوقاً لترويج منتجاتها من أدوات القتل، وسبيلا لإبقائنا في حالة اقتتالٍ ذاتي، طلبا لفنائنا، وإهداراً لقوتنا؟
كم أشعر بالأسى، ويمزقني الألم، وأنا أنظر إلى "الفريقين" (أي فريقين متقاتلين من أمتنا هذه)، وهما يجتهدان في تمزيق أجساد بعضهما، لتصفية حساباتٍ تاريخية، لم يعد لها وجود، وإقامة بيوت عزاء لشهداء مضوا إلى ربهم منذ قرون (!)، وإحياء مناسبات لم تعد تصلح إلا للرثاء والاعتبار، لا للثأر والاقتتال. أي جنونٍ أصاب هؤلاء وأولئك، وهم ينادون بمزيد من الانتحار الذاتي، فيما عدوّهم يستمتع برؤيتهم وهم لاهون عنه، منشغلون بقتل بعضهم بعضاً؟
أي خطاب أرعن يغذي هذه النار المجنونة التي تحرق ملابسنا، وعقولنا؟ أي شيطان رجيم سوّلت له نفسه أن يوغر صدورنا على بعضنا بعضاً على هذا النحو المتوحش؟
أين العقلاء وذوو الحجى، وراجحو التفكير، وأساطين الحكمة، ومنظرو السلام الذاتي، والتنوير؟
أين اختفى دعاة التفكير والتنوير، وإطفاء الحرائق، وكيف تركوا أماكنهم للمجانين من دعاة التكفير وسفك الدم، وتفريق الذراري وتخريب البيوت؟ كيف تحوّل خطاب الكراهية، إلى فيروس سريع العدوى، يضرب الكبير والصغير، الحاكم والمحكوم، العالم والجاهل، الكاتب والقارئ، الحكيم والصفيق، فغدا نشيدها القومي والوطني والمناطقي؟
الويل لنا منا، وقد عميت أبصارنا وبصائرنا، فاستمرأنا الخضوع لما يراد لنا، فقتّلنا بعضنا تقتيلا، وأداً لكل برعم خير وتغيير، وقد كفينا عدونا مؤونة الحرب، فأدرناها نيابة عنه، فاسترخى واستراح.
إلى أين يمضي بنا هذا الجنون المبرمج، وأي وادٍ سحيق نغذّ السير إليه؟ وكيف يتورّط من نعتبرهم نخباً وقادة رأي، وصناع وعي، إلى هذا الدرك السحيق من الرعونة والخفة، فغدوا دهماء عميت بصيرتهم وبصرهم، فصفقوا للاقتتال الذاتي، وشجّعوا عليه، واحتفوا به على نحو مقزّزٍ ومقيت؟
يا ويحنا.. أليس منَّا رجل رشيد، يقرع ناقوس الخطر، ويضرب رؤوسنا بحجر، لعلها تفيق من سكرتها المجنونة، لترى إلى أين يمضي بنا العته والحمق والجهالة؟
أليس منَّا عاقلٌ واحد، يدعو إلى التوقف عن مهرجان المهازل التي ضربت بلادنا، فصرنا أمثولةً في تدمير الذات، وأكل لحمنا، وتخريب ممتلكاتنا، وهتك أعراضنا، وتشريد أبنائنا، وترميل نسائنا؟
ما الذي أصابنا؟ ما سبب كل هذا الحقد الذي يحمله بعضنا على بعضنا: سنة وشيعة، علمانيين ومتدينين، إصلاحيين ومحافظين، سلفيين وإخواناً، ثوارا وفلولا، موالين ومعارضين، حكاما ومحكومين؟ أي جاهلية صفيقة تحرّكنا؟ وكيف تحولنا كلنا إلى وقود مستعر لنسخة معاصرة مجنونة لحرب داحس والغبراء؟ أي دين ومبدأ وعقيدة، وحزب، وتفكير، يسوغ ويبرر استعار هذه الحرب المجنونة التي يشنها بعضنا على بعضنا؟ ألا يذكرنا هذا المشهد العبثي باحتفالات الموت التي كانت تقيمها بعض المجتمعات منذ زمن سحيق، حينما كان الحكام الظلمة يطلقون الأسود على السجناء، في مسرحٍ مفتوح، فيستمتع الجمهور بتمزيق جثث البشر، أو حينما كانوا يطلقون العبيد بعضهم ضد بعض، فيخوضون صراعاً حتى الموت، فيما يشجع الجمهور ذلك المشهد المتوحش، ويصفقون للدم والقتل في إيقاع هستيري، يخلو من أي إمتاع؟
على كل من ينشر مقطعاً أو صورة أو حكاية، مستمتعا بقتل فريق فريقاً آخر، والتمثيل بجثثه، أن يعيد النظر بإنسانيته، ووعيه، ومدى ملاءمته للانتماء للجنس البشري، على هؤلاء وأولئك أن يحاولوا أن يطفئوا النيران التي تحرق أكبادنا، بدلاً من صب الزيت عليها.