تونس وإحياء فرنسا نزعاتها الكولونيالية

تونس وإحياء فرنسا نزعاتها الكولونيالية

16 نوفمبر 2016

هولاند والشاهد في الإليزيه في باريس (10/11/2016/فرانس برس)

+ الخط -
من زاوية إحياء فرنسا نزعاتها الكولونيالية، وعلى هذه الخلفية، بُني تعامل الدولة الفرنسية مع رئيس الحكومة التونسية، يوسف الشاهد، في أثناء زيارته إلى باريس يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، فأشعرته بأنه في مرتبة مسؤول كبير في إحدى مقاطعات ما وراء البحار الفرنسية، المستعمرات القديمة، التي كانت تنتمي إليها المملكة التونسية بين سنة 1881 و1956، وليس رئيس حكومة، صاحب السلطات الأوسع في دولةٍ مستقلّة ذات سيادة. وإلا بماذا نفسّر عدم استقبال رئيس الحكومة الفرنسية، مانويل فالس، الشاهد، وهو الذي وجّه له الدعوة، أو وزير خارجيته جان مارك آيرولت، لدى وصوله إلى باريس؟ بينما تظهر إلى جانبه وزيرة مقاطعات ما وراء البحار الفرنسية Ericka Bareigts في متحف الجيوش في الاستقبال الرسمي الذي نظّم له. جاءت رمزية الاستقبال قوية وعنيفة وموجعة ومستفزّة، وتحمل مضامين تاريخية، وحنيناً إلى أيام الاستعمار المباشر، وأخرى سياسية تستبطن التبعية، ورسائل واضحة، مفادها فكر هيمني قديم، يستيقظ من جديد، ينظر إلى تونس كأنها جزء من الفضاء الجغرا- سياسي الفرنسي، ومن الإمبراطورية الفرنسية.
يروي رئيس جهاز المخابرات الإيطالية السابق، فولفيو مارتيني، في حوار معه، نشرته جريدة الجمهورية الإيطالية يوم 7 نوفمبر الحالي، ظروف (وملابسات) تمكين الحكومة الإيطالية، الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، من الصعود إلى هرم السلطة في تونس يوم 7 نوفمبر سنة 1987 ودورها في إطاحة سلفه الرئيس الحبيب بورقيبة، إلا أن اللافت هو موقف ريني أمبوت، قائد أركان الجيش الفرنسي آنذاك، الذي احتجّ عندما أُبلغ بالدور الإيطالي، قائلا إن تونس جزء من الإمبراطورية الفرنسية، وحذّر إيطاليا من الاقتراب منها.
ويفتح هذا الموقف الذي يعكس ثأر الإيطاليين لأنفسهم، معتقدين أنهم استرجعوا تونس التي خططوا لاحتلالها من الفرنسيين، بعد أكثر من قرن من استعمارها سنة 1881، حين مكّنوا رجلا مواليا لهم من السلطة، على حدّ قولهم، يفتح أبصارنا على أن الدولة التي أُعلن استقلالها منذ ستة عقود، وتغيير نظامها السياسي من الملكية إلى الجمهورية، ما زالت في قلب الصراعات الإقليمية ومخططات نفوذ القوى الدولية واستراتيجياتها الاستعمارية وطموحاتها الكولونيالية الجديدة.
فكرة تصنيف تونس جزءاً من الإمبراطورية الفرنسية تؤيدها شواهد كثيرة، على غرار
الانتساب إلى المنظمة الدولية للفرنكفونية، واحتلال مراتب متقدّمة من بين الدول المستعملة للّغة الفرنسية. لكن الأهمّ الطريقة الفجّة التي احتج بها السفير الفرنسي في تونس، أوليفييه بوافر دارفور، على تصريح وزير التربية، ناجي جلول، بأن اللغة الإنجليزية ستحلّ محل الفرنسية، لغة ثانية بعد العربية. وجّه السفير رسالة شديدة اللهجة إلى وزارة الخارجية التونسية احتجاجاً على موقف الوزير، طالبا منه التراجع والاعتذار. ولم يتأخر الوزير في الاستجابة للمطلب الفرنسي، معتبرا أن كلامه قد حُرّف، وأُخرج عن سياقه، وأن الفرنسية ستبقى اللغة الثانية في تونس. وقد سمح السفير الفرنسي لنفسه، في تصريح خالٍ من كل الأعراف الدبلوماسية، بالقول إن وزير التربية التونسي تلقّى تعليمه في الجامعات الفرنسية، وله توجهات فرنكفونية، وزوجته تدرّس في مدرسة فرنسية، وإن اللغة الفرنسية ستبقى الثانية في تونس، ما يعني أن لفرنسا أفضالا جمّة على هذا الوزير، لكن الرسالة الأهم للسفير أنه ليس لتونس الحق في تغيير لغة تدريس العلوم، وتبديل التراتبية اللغوية، من الفرنسية إلى الإنجليزية، منتهكاً سيادة الدولة التونسية، نظراً إلى أن الخيارات اللغوية عنوان للهوية والسيادة الوطنية، ومن دون أن يصدر أي ردّ فعل من الحكومة التونسية.
النفوذ الإمبراطوري الفرنسي في تونس يلاحظه، بكل يسر، المارّون في شارع الحبيب بورقيبة أمام السفارة الفرنسية في العاصمة التونسية، مقرّ الإقامة العامة الفرنسية، مركز الحكم زمن الاستعمار الفرنسي، التي تحتلّ مكانا استراتيجيا، فهي بمثابة القلعة المحاطة بالأسلاك الشائكة، وتحرسها كتيبة من العسكريين والحرس الوطني التونسي الذين يتحصّنون بأكياس ترابية. يوحي مشهدها، في أول وهلة، بأن المكان جزء من جبهة قتال، على خلاف ما ترمز إليه البعثات الدبلوماسية من تواصلٍ بين الشعوب وإحلال السلام والتعاون بينها. عسكرة السفارة ومحيطها منذ سنة 2012، تاريخ تولي السفير الفرنسي السابق، المستعرب، فرنسوا قويات، القادم إلى تونس من ليبيا، والشاهد على مأساتها، وتلقي السفارة تهديداتٍ إرهابية، أضرّ كثيرا بمصالح تجار حاضرة تونس، المحيطين بالمبنى الضخم الذي يعكس سلطةً أعلى من كل السلطات، وقوة تهابها الحكومات التونسية المتعاقبة، ما جعلها تغمض أعينها عن صيحات استغاثة التجار الذين بارت تجارتهم، وانهارت رساميلهم، وتوقف نشاط بعضهم، من دون أن يُستجاب لرغباتهم في فتح الشوارع المحيطة بالسفارة، وإلغاء مظاهر العسكرة، وتيسير حركة مرور العربات والأفراد، لاسيما في شارع جمال عبد الناصر، الرئيس المصري الراحل الذي خاض صراعاً دامياً مع الفرنسيين، في خمسينيات القرن العشرين وستينياته لأجل استقلال تونس والجزائر عن فرنسا.
لا نعلم هل رئيس الحكومة التونسية، يوسف الشاهد، على معرفةٍ بكل هذه الأبعاد الكولونيالية الجديدة، وله من الوعي التاريخي والحس الوطني والسياسي، ما يمكّنه من فكّ شفرات
الرمزيات البروتوكولية في زيارته، وهو رجل الدولة حديث العهد بالسياسة، الفاقد تجارب نضالية وانتماءات أيديولوجية وسياسية تذكر، قبل سقوط نظام بن علي وأفول نجمه. لكن الثابت أن الفرنسيين، الذين استقبلوه رسمياً في متحف الجيوش، أرادوا تذكيره بتمثلهم الحقيقي مكانة بلده لديهم، وبأن الشواهد في المتحف تشهد على حكم فرنسا تونس عقوداً، ومن العسير عليها التفريط في مستعمرتها القديمة. ولهذا الغرض، استقبلته وزيرة المستعمرات فيما وراء البحار. وفي خطوة أخرى ذات دلالة، أطلعت الحكومة الفرنسية ضيفها الذي دعته إلى إلقاء محاضرة في معهد العلوم السياسية ذائع الصيت، على سجلات والده ودفاتره في أثناء دراسته في المعهد 1962- 1965، مذكرة إياه بالمزايا الشخصية التي متّعت فرنسا بها عائلته، بمن فيهم هو نفسه الذي أكمل دراسته في الجامعات الفرنسية، وحصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الزراعية.
تمنّى تونسيون كثيرون أن يسلك رئيس حكومتهم الشاب والأكاديمي سلوكاً مماثلاً لملك المغرب محمد السادس الذي كان درس أيضاً في الجامعات الفرنسية، عندما رفض النزول من طائرته، مشترطاً حضور الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، إلى المطار لاستقباله، واستجيب لطلبه. لكن الشاهد لم يسعفه وعيه وعلمه الذي تلقاه، وقيمه السياسية التي نُشئ عليها، إلى الموقف نفسه، معطيا انطباعا سلبيا عن زيارته منذ لحظاتها الأولى، ومستضعفا بلده أمام الأمة الحامية القديمة، وملقياً نضالات أجيالٍ من الوطنيين وتضحياتهم في هوامش التاريخ الذي حبّروه يوما بدمائهم، بعد أن كانوا في صميم أحداثه صناعةً وكتابة.