أن تستأنف حياتك

أن تستأنف حياتك

29 أكتوبر 2016

(سمعان خوّام)

+ الخط -

قبل سنواتٍ طويلةٍ جداً، كان أحدهم يقرأ لي كفي. أذكر أنه قال لي يومها: خط الحياة لديك مقطوع، لكنه يعود إلى الاستئناف لاحقاً. أذكر أيضاً أنني ضحكت من الفكرة، لم أؤمن يوماً بهذه السير والحكايات، وقارئ كفي كان ممن يعتقدون بالتقمص. تخيلت أنه يقصد أنني  سأموت باكراً، لكنني سأعود إلى الحياة في قميص جديد، إذ كيف ستعود حياتي إلى الاستئناف، حين ينقطع خطها؟ ضحكت كثيراً من الفكرة، أنا التي تؤمن بأن الموت هو نهاية كل شيء، ولا شيء بعده غير العدم، وأن كل ما قيل، عبر التاريخ، عن مرحلة ما بعد الموت مباشرة، أو الدخول في غيبوبته الأولى، ليس أكثر من خرافاتٍ تجميلية لفكرة فنائنا الشخصي، نحن البشر المحكومين بالموت جميعا.

عادت لي هذه الذكرى، وأنا في طريقي إلى غرفة العمليات لإجراء عملية قلبٍ مفتوح. كان برفقتي الطبيب المخدّر، وكنت أسأله بإلحاحٍ عن البنج، كعادتي في محاولة معرفة كل التفاصيل. لم يجبني بما يكفي، أو هكذا ظننت، إذ عرفت لاحقاً أنني دخلت في غيبوبة البنج مباشرة، تلك الغيبوبة التي استمرت أكثر من ثلاث عشرة ساعة متواصلة، هل كنت حيةً خلالها؟ توقفت فيها عن الإدراك وعن الإحساس، وتعطلت ذاكرتي تماماً، وخرجت من الحياة لأصبح مجرد جسدٍ، يشرطون لحمه بالمشرط، وينشرون عظمه، ويقطعون شرايينه ويستبدلونها بأخرى، بل ويعطلون عمل القلب والرئة، من دون أي إحساسٍ، ولو لحظةً، بالألم، تماماً مثل جثةٍ يجري تقطيعها وتشريحها. هل تنفعل الجثة، أو تتألم، أو تدرك، أو تشعر، أو تحسّ أو تتذكّر؟ الموت هو هذا الانقطاع الكامل عن كل شيء، هو تعطيل الدماغ عن إصدار أمر الحياة. في البنج العميق، يتعطل الدماغ أيضاً، تعطيلاً مؤقتاً، نعم، لكنه كامل، في بنج العمليات الكبيرة والخطيرة، يدخل المريض في الموت، يخرج خلال ساعات البنج الطويلة من الحياة. تنقطع حياته، كما قال لي قارئ كفي ذات يوم بعيد، وتعود إلى الاستئناف، إن لم تحصل مضاعفاتٌ في أثناء العملية والبنج، على أن المدهش هو ما يحصل لحظة العودة إلى الحياة بعد تعطيلها، لحظة الاستيقاظ من البنج، على الأقل ما حصل معي أنا، لوهلةٍ لم أدرك أين أنا، ومن أنا، وما هي هذه الآلام الغريبة التي أشعر بها، وماذا أفعل في هذا المكان الغريب.

بعد فترة قصيرة، استسلمت لفكرة العودة إلى حيث كنت، إلى فقدان الإحساس بكل شيء، إلى حيث السلام الكامل، وأنا أسمع أصواتا تطلق على مسمعي تعليماتٍ كي أعود إلى الحياة. كنت  أتأرجح في تلك المسافة، الرغبة في السلام الكامل، وغريزة البقاء. كنت أقاوم الحالتين، تختفي الأصوات كلها فجأةً، وأعود إلى سلامي الكامل، حيث اللاشيء، ثم فجأةً أجاهد لكي أسمع كل حرفٍ، لأعرف كيف أعود إلى الحياة، على الرغم من الألم والتشويش والدهشة من كل ما حولي، لكن الرغبة بالحياة أقوى.

انتابني تلك اللحظة شعورٌ غريب. شعرت كما لو أنني في هوةٍ عميقةٍ، وعلي أن أتسلق  الصخر، وأتشبث به وأدمي أصابعي، كي أصل إلى أعلاه. شعرت بأنني فعلت ذلك كله، وفي الوقت نفسه، كنت أفعل كل ما يطلب مني بالحرف، من دون أي اعتراضٍ أو محاولة للتملص، أنا الخارجة الأبدية عن كل الأوامر، كنت ألتزم بما تمليه علي الأصوات القاسية المجهولة، ما أردته هو العودة إلى الحياة فقط في تلك اللحظة، على الرغم من حلاوة التلاشي، والدخول في الفراغ للخلاص من الألم. كانت العودة إلى الحياة أشدّ حلاوة، وكنت أريد هذه العودة بقوة، كنت أريدها من أجل نفسي، لا من أجل أي شيء آخر، ولا من أجل أحد آخر. ذاكرتي تلك اللحظة نحّت الجميع، الأهل والعائلة والأصدقاء والانتماء والمكان وكل شيء. لم يكن هناك أحد سواي، وعلي أن أبقى من أجلي، أفكّر الآن بتلك اللحظات، وأقول: في لحظة الخطر من فقدان الحياة، لا أحد يبقى في الذاكرة، ولا تخاف على أحد سوى على نفسك، ولحسن الحظ أن هذا فقدانٌ مؤقت للذاكرة، إذ بعد برهةٍ، ستعود لتتذكّر كل الذين تحبهم ويحبونك، وتمتن للحياة أنك عدت إليهم.

 

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.