حجاي إلعاد يحاول أن يكون إنساناً

حجاي إلعاد يحاول أن يكون إنساناً

20 أكتوبر 2016

إلعاد في مجلس الأمن: تنديد بإسرائيل والاستيطان (فرانس برس)

+ الخط -
لا يمكن لعاقلٍ يقرأ خطاب مدير عام منظمة بيتسيلم الإسرائيلي، حجاي إلعاد، أمام مجلس الأمن الدولي، بشأن جريمة الاستيطان في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، من دون أن تثور في نفسه مشاعر عميقة بالإعجاب والاحترام باتجاه هذا اليهودي، الذي يحاول أن يكون إنساناً، كما قال هو. هذا أولاً، وثمّة مشاعر أخرى تثور باتجاه عرب عاربة مجّدوا الاحتلال وأعانوه، وتواطأوا معه، سراً وعلانية، ولا يزالون يمدّونه بأسباب القوة والمنعة، ويشدّون على أيدي المحتلين، ويشجّعونه على ارتكاب مزيد من الجرائم.
حجاي إلعاد، وفريق بيتسيلم تحديدا، يقومون بدور في ملاحقة الاحتلال وكشفه يفوق دور دول عربية وأنظمة ملأت الدنيا جعجعة وطحنا فارغا، وخطابات كاذبة تمجّد دورها المزعوم في مساندة الشعب الفلسطيني، وتعضد مقاومته الاحتلال، فيما هي تتحالف معه، وتقويه وتشجعه على مزيد من القمع، بل تكشف الأيام كل حين عن أن الضامن الأساسي لديمومة الاحتلال، ورعاية المحتلين، كانت تلك الأنظمة العربية التي بذلت، ولم تزل، كل ما تستطيع لقتل المقاومة ومحاصرتها وتجريمها، بحجة توقيع معاهدات سلام، مع عدوٍّ لم يحترم شيئاً من بنودها، ويمعن في إذلال محالفيه من العرب، ولا يولي "كرامتهم القومية!" أي اعتبار، وما فتئ يكشف "أوراقهم"، سواء من يحتفظ بعلاقات رسمية مع الاحتلال، أو من يتحالف معه "من تحت الطاولة" لمواجهة غضبة شعوبهم وانتفاضاتهم، خصوصاً إبّان ثورات الربيع العربي، فكيف لهؤلاء أن يهتموا أصلاً بانتهاكات العدو حقوق الفلسطينيين، وإنسانيتهم، وهي آخر همهم؟.
لهذا، نرفع قبعاتنا احتراماً لهذا اليهودي الذي خرج من غابة القتلة، والمجرمين، ليتبرأ مما يفعله بنو جنسه بشعبٍ آخر، غير عابئ بهجوم خصومه وخصوم أي أصحاب مشاعر إنسانية، وسط جو مشحونٍ بالعداء لكل ما هو عربي وفلسطيني، وهو يدرك، قبل غيره، أن موقفه هذا
سيجعل منه هدفاً لغضبٍ عارم من عصابات المتطرّفين، رعاة الاحتلال وحراسه ومرتكبي جرائمه، ابتداءً من رئيس وزرائهم، بنيامين نتنياهو، وانتهاء بأصغر مستوطن، وهذا ما حصل فعلاً، ولم يكن غريباً، بالطبع، أن تعلن الشرطة الإسرائيلية أنها تلقت شكوى للشروع بالتحقيق مع حجاي إلعاد، بتهمة "الخيانة العظمى"، قبل أن يجفّ حبر خطابه الجريء في مجلس الأمن.
ماذا قال إلعاد، حتى تقاطرت عليه اللعنات في الكيان؟ هل افترى على الاحتلال، أم ألصق به تهماً باطلة؟ أم وثق جانباً يسيراً من جرائمه، التي لم تعد تجد، ولو رد فعل باردا و"حنونا" من أنظمة العرب، وجامعتهم التي تغط في سبات عميق؟.
يسأل حجاي إلعاد: ماذا يعني فعلياً أن تقضي 49 عاماً، عمراً بأكمله، تحت وطأة الحكم العسكري؟ ويجيب بوصفٍ دقيق، لا يعلمه إلا من عايشه ووثقه: أنتم ترون فقط لمحةً عن بعض جوانب الحياة تحت الاحتلال، عندما تندلع أعمال عنف، أو عندما تجذب أحداث معينة اهتماماً دولياً. ولكن، ماذا عن بقية الوقت؟ ماذا عن الأيام الكثيرة "العادية" لاحتلال حاضر طوال 17898 يوما، ويواصل فرض حضوره بقوة؟ الحياة تحت وطأة الحكم العسكري تعني، في الغالب، عنفاً بيروقراطياً يومياً، ليس مرئياً. إنها تعني العيش تحت وطأة نظام تصاريح لا نهائي، يسيطر على حياة الفلسطينيين "من المهد إلى اللحد": إسرائيل تسيطر على سجل السكان؛ إسرائيل تسيطر على تصاريح العمل؛ وإسرائيل تقرّر من يمكنه السفر إلى الخارج، ومن لا يمكنه ذلك. في بعض القرى، تحتفظ إسرائيل بقوائم من يُسمح له بزيارة القرية، ومن يُسمح له بزراعة أي حقل. لا تُمنح التصاريح دائماً، ويجب تجديد هذه التصاريح على الدوام. لهذا، يستنشق الفلسطينيون احتلالاً مع كل نفَس يتنفسونه. خطوة واحدة خاطئة قد تُفقدك حرية الحركة والتنقل، أو مصدر رزقك، أو حتى فرصة الزواج وبناء أسرة مع من تحب.
وفي ما يتعلق بالواقع الرقمي، كما سجلته ووثقته منظمة بيتسيلم، فهو يكشف حالةً مريعةً من
الظلم وإهدار حياة الإنسان الفلسطيني وكرامته، حيث يعيد إلعاد التذكير بإعلان إسرائيل 20% من مساحة الضفة "أراضي دولة". ويقول إنها "تتكرّم"، فتسمح للفلسطينيين بالبناء على نصف في المائة من المنطقة (C) التي تشكل 60% من مجمل مساحة الضفة الغربية، والتي وُضعت "مؤقتاً" تحت السيطرة الإسرائيلية منذ جيل. على مدار العقد الماضي، هدمت إسرائيل نحو 1200 منزل فلسطيني في الضفة الغربية، وهذا لا يشمل القدس الشرقية، مخلفة بذلك أكثر من 5500 شخص بلا مأوى، نصفهم قاصرون. وإذا أضفنا القدس الشرقية، فسترتفع هذه الأرقام بنسبة 50%. في أبريل/ نيسان 2016 قبع نحو 7000 فلسطيني في السجون الإسرائيلية، احتُجز ربعهم إلى حين انتهاء إجراءات محاكمتهم العسكرية، ونحو 10% منهم معتقلون إداريون. وهنالك أكثر من 740 شكوى أحالتها "بيتسيلم" إلى السلطات العسكرية منذ عام 2000، ربع منها لم يتم التحقيق فيها، ونصفها انتهى إلى إغلاق الملف من دون اتخاذ أي إجراء، وفقط في 25 حالة، تم تقديم لوائح اتهام. وفي الفترة نفسها، أضاعت السلطات العسكرية فعليا 44 ملفا، أي أكثر من الملفات التي أحالتها إلى المحكمة، وعددها 25.
حجاي إلعاد: محنتك القادمة مع من يسنّون أسنانهم عليك، من بني جنسك، لا تقل عن محنة الفلسطيني، وأقلّ ما يمكن أن يقال لك، "شكرا لك" فأنت "تمثلنا" وواحد منا، نحن الذين لم نزل نؤمن بالإنسان وحقه في العيش بكرامة، مهما كان دينه أو معتقده أو عرقه. شكرا لك وأنت تقف في أكبر وأهم محفل دولي، محاولاً أن تستنهض همماً غير موجودة، وتستفز مشاعر تبلّدت، لرفع ظلمٍ هم شركاء فيه.