الإصلاح الإداري والإصلاح الثقافي

الإصلاح الإداري والإصلاح الثقافي

02 أكتوبر 2016
+ الخط -
درج، في السنوات الأخيرة، وفي غير بلد عربي، استعمال شعارات "الإصلاح الإداري" للمؤسسات والهيئات الحكومية، باعتباره مساراً ضرورياً لتطبيق الممارسات الديمقراطية التي تنطوي على تحقيق المشاركة العامة والنزاهة والشفافية والعدالة بين المواطنين. وقد ساهم ذلك الخطاب في تعديل تشريعات مؤسسات عامة كبرى وأنظمتها، وانعكس إيجابياً على صعيد مهامها وعلاقتها بالمواطن في بلدانها، حيث باتت تتوفر على سلاسةٍ غير معهودة سابقاً في إجراءاتها البيروقراطية، بل إنها باتت مختلفة شكلاً عمّا مضى، لا مضموناً وحسب.
وسط هذه النجاحات النسبية، ظلت هناك أبعاد غائبة في إدارة خطط الإصلاح وتنفيذها داخل المؤسسات العامة في البلدان العربية، لا يلتفت إليها، ولا ينشغل بها، إلا أصحاب الشأن المباشر، ربما كان أبرزها كيفية المفاضلة بين موظفي تلك المؤسسات في عملية الترقية وتوزيع المهام الإدارية والتنفيذية، الأمر الذي ينعكس بشكل مباشر على رضى هؤلاء الناس الذين يقدمون الخدمات الحكومية مباشرة للمواطن، ويؤثر من ثم على مدى جودة تلك الخدمات وحرفيتها.
تكمن خصوصية هذا البعد تحديداً في أن إجراءات الإصلاح الإداري عادة ما ظلت تقوم على منح صلاحيات واسعة للإدارات الوسطى في المؤسسات الحكومية، وخصوصاً في مجال ترفيع الموظفين وتوزيع مهام العمل، بل والتصرّف بالموارد المالية، ما يعني أن الإفادة من تلك الإصلاحات عملياً يلزمها كثير من النزاهة والعدالة لدى تلك الطبقة الإدارية الوسطى، كي تستعمل صلاحياتها الواسعة لخدمة مؤسساتها أولاً وأخيراً.
أهم ما يمكن قوله، هنا، إن خطط الإصلاح الإداري التي عادةً ما تعمد إلى محاكاة الأنظمة الإدارية في الدول المتقدمة، إنما تغفل عن البيئة الثقافية التي ستُطبق فيها، فلا تدرك أن نجاح تلك الأنظمة الإدارية المتطورة، في الدول المتقدمة، قائم على توفر قيم الاحتكام الطوعي للقانون في مجتمعاتها، لا الاحتكام الإكراهي أو الشكلي، وقبل ذلك توافر "المؤسسية" الحقيقية في مؤسساتها، ما يعني أن سبب نجاح تلك الأنظمة الإدارية وجود البيئة الملائمة للنجاح، وليس بنية تلك الأنظمة الإدارية بذاتها.
لا تتوفر مجتمعاتنا القائمة على العصبيات على ثقافة القانون في سلوكها، ولا على المؤسّسية في عملها، من الناحية الجوهرية، حتى وإن بدت كذلك شكلاً. وبالطبع، ليست مؤسسات القطاعات العامة مفصولة أو مختلفة عن هذه البيئة، بل هي بنْتها وجزء منها، بما في ذلك موظفوها. قد تتباين طبيعة الإدارات العليا في تلك المؤسسات، لكن "الإدارات الوسطى" التي تتولى، في ظل الإصلاحات الإدارية، صلاحيات واسعة، ليست كذلك أبداً، بل هي من تلك البيئة التي لا تعترف بالقانون والمؤسّسية، مثل عامة الموظفين. فكيف، يا تُرى، ستدير العمل وتوزع مهامه؟ هل بناءً على التمايز في الكفاءة، كما تقتضي ثقافة القانون والمؤسسية؟ أم على أساس العلاقات والمحسوبية، كما هو دارج في ثقافة العصبيات؟
بالطبع: على أساس المحسوبيات. وهذا يعني أن عمليات الإصلاح الإداري إنما تنقلب نقمة على موظفي مؤسسات القطاع العام، لأنها تجعلهم، على الأغلب، رهناً لأمزجة تلك الطبقة الإدارية الوسطى ومحسوبياتها، بعد أن كانت شؤونهم مرهونةً فقط بالقرارات الإدارية العليا التي عادة ما تكون أقل محسوبيةً وأكثر مؤسسية. نتيجة ذلك، يكون متوقعاً أن تتأثر جودة الخدمات التي تقدمها تلك المؤسسات للمواطنين، لأنها ستقدم على أيدي موظفين مرهونين للأمزجة، وغير مرتاحين وظيفياً؛ يحدث هذا عادةً في وقتٍ تنهمك فيه تلك المؤسسات بدعاية نشطة، شكلها جذّاب، حول خدماتها الجديدة وتطوّرها النوعي.
لا يمكن تحقيق الإصلاح الإداري الحقيقي في بلداننا العربية، من دون تحقيق الإصلاح الثقافي في مجتمعاتنا أولاً. ففي ظل ثقافة اللاقانون واللامؤسسية السائدة من المحيط إلى الخليج، لا يكون الإصلاح إلا شكلياً ودعائياً. لا تتنبه خطط الإصلاح إلى أن المشكلة ليست في البُنية الإدارية للمؤسسات، وليست في هوية الشخص المتربع على رأس الإدارة، بل هي ضاربة في ثقافة المجتمع وسلوكه. وهكذا، لا يتحقق الإصلاح النافع في عالمنا العربي في مؤسسات القطاع العام، بل في وعي الناس، وفي ماهية القيم التي تتشكل عندهم منذ الصغر.
يستلزم الإصلاح العميق والحقيقي جهداً يتواصل عشرات السنين، ليطاول ثقافة المجتمع كله وسلوكه وأفكاره وقيمه.

دلالات

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.