الربيع العربي والفراغ والفوضى

الربيع العربي والفراغ والفوضى

25 يناير 2016
+ الخط -
بعد خمس سنوات على انطلاقة الثورات والانتفاضات العربية، ما زالت هذه التحركات التي عُرِفت على نطاق واسع تحت عنوان الربيع العربي، تشغل الناس بالأسئلة حولها، وحول مآلاتها، بعدما أعلنت بداية حقبة جديدة في الوطن العربي. تتراوح النقاشات والمواقف من الربيع العربي، ونتائجه وأسباب تعثره، فنشهد أحياناً "دروشة فكرية"، لا تغوص عميقاً لفهم أسباب التعثر، بقدر ما تبحث عن سرديةٍ مريحة، تُحمّل الأنظمة التسلطية المسؤولية، وتردّد أكبر قدر ممكن من الكلام العاطفي عن التمسك بأهداف الربيع العربي، كما نشهد إيغالاً في ذم الثورات التي حدثت، إما من محبطين من عدم تحقيقها النتائج المرجوة، يُسقِطُون النتائج على الفكرة نفسها، ويصفونها بالسلبية، أو من رافضين فكرة التغيير من الأساس، ومدافعين عن أوضاع ما قبل الثورات.
ليست الثورات حالة إيجابية بذاتها، إذ هي حركات تمرد على الوضع القائم، ترمي لتغييره، والمهم في تقييم إيجابيتها من عدمها هو ما تحمله من رؤيةٍ مغايرةٍ للمنظومة الحاكمة. وفي الحالة العربية، مثّل الربيع العربي محاولة للتغيير، ترفع شعارات الحرية والعدالة والكرامة، في ظل تراكم عوامل عديدة، أضعفت شرعية الدولة في أقطار عربية كثيرة، وأدَّت إلى انفجار غضب جمهور كبير، نزل في الشوارع والساحات، ليعبر عن سخطه ورغبته في التغيير إلى الأفضل.
أول ما يلفت النظر في هذه الحركة قيامها في دولٍ تشكو، في معظمها، من أوضاع اقتصادية خانقة، وقيادة مجموعات كبيرة من المتضرّرين اقتصادياً للحراك الشعبي، بل إن حركاتٍ شبابية ساهمت في التحرك (مثل 6 إبريل في مصر)، كانت نتاج مجموعة من الإضرابات العمالية المعترضة على الأوضاع والسياسات الاقتصادية، وحتى في تونس، مهد الربيع العربي، حيث النجاح الأكبر للتغيير في المنظومة السياسية، نجد أنه، مع مرور خمس سنوات، تتجدّد الاحتجاجات بشكلٍ مشابه، بحثاً عن عدالة اجتماعية مفقودة، وتوزيعٍ عادل للثروة، وتنمية متوازنة ما زالت بعيدة لليوم.

واحدة من المشكلات الرئيسية للنقاشات حول الربيع العربي، هي إهمال البعد الاقتصادي والمطلبي في الحركة الشعبية العفوية التي انطلقت في تونس، وعمّت أرجاء الوطن العربي، فأمور مثل إهمال الأرياف تنموياً، وتركيز الخدمات والمشاريع في المدن الكبرى، وعدم وجود خطط تنميةٍ تعتمد على الإنتاج، والتعايش مع فكرة الاعتماد على القروض والمعونات الخارجية، ووصفات البنك الدولي النيوليبرالية، والنهب والفساد، والخصخصة الجائرة التي لم تفتح السوق للتنافس، وباعت القطاع العام، في بعض البلدان العربية، لأهل النظام وحاشيته والمقربين منه، ما شكَّل احتكاراً إقطاعي الطابع، تحت عناوين السوق المفتوح، كلها ساهمت في توسيع الفوارق الطبقية بين الناس، وضرب الطبقة الوسطى، والوصول إلى مجتمعات القلة المرفهة والأغلبية المسحوقة، وقد كان هذا سبباً أساسياً للثورة، وأولوية للتغيير بالنسبة لجموع المحتجين.
كان المطلب الاقتصادي المهمل أحد أهم أسباب تعثر الربيع العربي، بل ونجاح ما تعرف بالثورات المضادة في استثارة قطاعاتٍ واسعة ضد الثورات، وحشد الناس في الميادين، واستثمار هذا الحشد في إعادة إنتاج النظام القديم، كما حصل في مصر. لم تتمكّن الأحزاب السياسية والقوى المنظمة المؤيدة للتغيير، من طرح برنامج تحول اقتصادي يحقق ثورةً على سياسات الأنظمة القديمة، بل رأينا كيف أن أكثر هذه الأحزاب لا تطرح سوى السير على المنهج الاقتصادي القديم نفسه، مع تعديلات شكلية.
لم تتمكّن الأحزاب والقوى المنظمة من تقديم نفسها بديلاً، لا على المستوى الاقتصادي، ولا على مستوى بناء حياة ديمقراطية سليمة، والقبول بعملية سياسية مفتوحة للجميع. وفي حين جعلت الحركات العفوية الأنظمة القديمة تترنح، نشأ فراغٌ لم يتمكن من ملئه إلا بقايا هذه الأنظمة من جهة، والحركات الجهادية من جهة أخرى. كانت الحركة الشعبية غير المنظمة بحاجة لمَن يترجم طموحاتها إلى رؤيةٍ سياسيةٍ واقتصادية في المؤسسات، لملء الفراغ، لكن الأحزاب التقليدية أخفقت، فعادت الأنظمة التسلطية بوجه جديد، ودخلنا مرحلة العنف والفوضى مع صعود الجهاديين.
هذه الفوضى نتاج تآكل شرعية الدولة، ومقاومة الأنظمة التسلطية للتغيير، لكنها أيضاً نتاج فشل النخبة المعارضة في تقديم بديلٍ للأنظمة المترنحة، وعدم صلاحيتها لبناء ديمقراطية أو تحقيق عدالة اجتماعية، وانخراط بعضها في تأجيج الصراع على أساس الهوية، وحرف المسار نحو الاحتراب الأهلي في بعض البلدان، والتدخلات الخارجية التي دعا إليها بعضهم، ونرى نتائجها في أكثر من ساحة.
لا تُدين الفوضى فكرة التغيير التي انطلقت مع الربيع العربي، بل تؤكد الحاجة إليها، لأن عدم الإقرار بأزمة الشرعية في الدولة العربية يعني الاتجاه نحو مزيد من العنف والفوضى، والمطلوب، اليوم، هو إنهاء عناصر التأزيم، ومواجهة عملية تدمير المجتمع والدولة، بإعادة بناء شرعية الدولة في الوطن العربي على أسس جديدة، يجتمع فيها فتح المجال السياسي ديمقراطياً، مع الحريات والمواطنة المتساوية، على أرضية هويةٍ وطنيةٍ جامعة. وفي إطار رؤية واضحة للسيادة الوطنية والاستقلال السياسي والاقتصادي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والتنمية المتوازنة.
التدقيق في أسباب تعثر الربيع العربي مهم، والأهم تجاوز الأخطاء السابقة بشكل عملي، من قِبَل نخبٍ ترغب صادقةً في إنقاذ أوطانها من الضياع.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".