الاستبداد وسياسة الحجب

الاستبداد وسياسة الحجب

02 يناير 2016
+ الخط -
اعتادت أنظمة الاستبداد العربي أن تمارس كل أشكال الهيمنة والسيطرة والمنع على مواطنيها، ومحاولة التحكم في طبيعة الخطاب الذي يتم تسويقه لهم، باعتبار أن الرؤية الواحدة ظلت سائدة عقوداً، حينما كان الإعلام يقتصر على التلفزيون الحكومي اليتيم والصحف التي تصدر جميعها، وبنسخ متقاربة، من المطابع الرسمية وشبه الرسمية.
كان المشهد الإعلامي العربي محكوماً بآلياتٍ تجد جذورها في النموذج الستاليني للحكم، حيث يتم اختصار الرؤى السياسية في التصور الرسمي الذي تروّجه الأجهزة الحكومية التي تتسم بإطلاقية النفوذ، وتمثل الحقيقة الرسمية للدولة، ولنشر هذه الحقيقة الرسمية يستأثر نظام الحكم بوسائل القوة والإقناع ومجموع وسائل الاتصال، مثل الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة، لتكون موجهة من أجهزة الحكم أو من يمثلها، وبما أن كل نشاط (بما فيه الإعلام) يغدو من فعاليات السلطة، وخاضعاً للأيديولوجيا الرسمية، فإن الأنظمة الشمولية تنطلق في تعاملها مع كل نشاط إعلامي خارج عن هيمنتها، بوصفه دعاية مضادة، لا يمكن مواجهتها بغير سلاح المنع والإقصاء والعنف الرمزي، بكل أشكاله وتنويعاته.
تاريخياً، ومنذ انتشار وسائل الإعلام بأشكالها الأولى، أدرك أصحاب السلطان والنفوذ أهميتها ودورها، بوصفها وسيطاً قادراً على الإقناع والإيهام والخداع، وتكمن قوتها في أنها تسبك الرأي، وتقولبه حسب صياغة خاصة، وهو ما جعل الأنظمة الشمولية تحرص على السيطرة على هذه الأجهزة، غير أن الثورة التقنية الحديثة جعلت من إمكانية السيطرة على الدفق الإعلامي المتواصل أمراً مستحيلاً، ما دفع القوى المتنفذة إلى وضع استراتيجيات جديدة للسيطرة والتلاعب بالعقول، وإبقائها تحت حالة من التلقي السلبي، والخضوع للتوجيه، حسب مصالح أصحاب النفوذ والسيطرة وإرادتهم.
ولا أحد ينكر الدور الذي لعبه الإعلام في التقلبات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية (ولازالت)، وربما كانت منظومات التواصل الجماهيري (تلفزيون، صحافة إلكترونية، فيسبوك وتويتر) الأكثر تأثيراً في صناعة الرأي العام، وتغيير المزاج الجماهيري، وقولبته على النحو الذي يسعى إليه مستخدمو هذه الأجهزة، أو بصورة أدق المسيطرون عليها ومالكوها. أصبحت أجهزة الإعلام أداة مركزية، تتجاوز كونها وسيلة اتصال، أو تواصل، أو تختزل في مجرد صحف تنقل الأخبار الرسمية وصفحات الحظ والرياضة، أو قنوات تقدم برامج للتسلية والتثقيف، لتصبح أدوات للضبط والتحكم السياسي والاجتماعي، تؤثر على الأفراد والجماعات، تكشف لهم حقائق الأمور، وقد تزيّف وعيهم وسلوكهم.
تحول الإعلام إلى سلطة حقيقية، من يملكها يصبح السيد الحقيقي، أو كما يقول ريجيس دوبريه
"سيد الصورة هو سيد البلاد"، ومثلما كان للصورة التي روجها الإعلام البديل (فيسبوك ومواقع إلكترونية) دوراً مركزياً في خلخلة منظومات استبدادية، وإطاحتها أحياناً، فقد سعت الأنظمة الشمولية إلى الحد مما تعتبره خطراً عابراً للحدود، من خلال انتشار المواقع الإلكترونية، وأدوات التواصل الاجتماعي التي تنشر الأخبار المختلفة والموضوعية، بشكلٍ تعتبره أنظمة الاستبداد تهديداً فعلياً لوجودها السياسي، ولعل هذا ما يفسر سياسة الحجب والتعتيم الإعلامي التي تعتمدها هذه الأنظمة (جديدها حجب موقع العربي الجديد في بعض الدول العربية)، من دون أن يدرك أصحاب القرار، في هذه الدول، أن الثورة التقنية جعلت مسألة الحجب وسياسة الرقابة مجرد إجراء وهمي، يفتقد الفاعلية والتأثير. ويمكن، في هذا السياق، ذكر مثال سياسة الحجب التي كان يعتمدها نظام بن علي في تونس، طوال سنوات حكمه، واعتماده على جهاز كامل من الخبراء والتقنيين، تقتصر مهمتهم على منع تسرب المعلومات إلى الداخل التونسي، وهو ما تجلى في حجب مواقع صحافية ومدونات والرقابة على نشر المعلومات في شبكات التواصل الاجتماعي. وقد قابل الشباب التونسي تلك الحملة بالسخرية، وأطلقوا على الرقيب تسمية "عمار 404"، وهو الرقم الذي كان يظهر ليفيد بأن الصفحة موضوع البحث غير موجودة. وعلى الرغم من شدة هذه السياسة القائمة على الحجب والتعتيم، انتهى الأمر بانتقال الوضع من ثورة افتراضية، شنها الشباب على المواقع الإلكترونية، لتتحول إلى ثورة واقعية في الشوارع، أفضت إلى إطاحة حكم بن علي.
تعلمنا هذه التجربة التونسية درساً أن سياسة الحجب لم تعد مجدية في زمن الثورات التقنية والتحولات العالمية المتسارعة، في زمن انفجار المعلومات وانتشارها في جغرافيا العالم، وعلى الرغم من أنف الأنظمة السياسية القائمة. فأنظمة الاستبداد العربي التي عمدت اليوم إلى حجب موقع صحيفة العربي الجديد لازالت تفكّر بعقلية قروسطية، كانت تقابل انتشار الفكرة بحرق الكتب وتشريد أصحابها، من دون أن تعي أن هذا الزمان لم يعد يستجيب لأشكال التعتيم المتخلفة، وأن ثورة المعلوماتية كما تجسدت في الإنترنت قلبت الحدود المعروفة، وغيرت علاقة الشعوب بحكامها ومفهومها لمعنى الزمان والمكان، وطبيعة الحيز الذي يمكن التحكم فيه رقابياً. وكان من الأجدى لحكام دول الاستبداد اتخاذ قرار الانفتاح على الاختلاف والتعدد، والسماح لريح الحرية بالهبوب، ضمن مجال نفوذهم السياسي، قبل أن يُكسر الباب عليهم عنوة، وحينها لن يكون لديهم مجال للتدارك، والعاقل من اتعظ بغيره.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.