حجر داود و"دولة" جوليات

حجر داود و"دولة" جوليات

24 سبتمبر 2015

حجارة ترابط في المسجد الأقصى لمواجهة اعتداءات المحتلين

+ الخط -
"... فقال داود للفلسطيني: أنت تأتي إلي بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود، إله صفوف إسرائيل الذين عيّرتهم، هذا اليوم يحبسك الرب في يدي فأقتلك، وأقطع رأسك، وأعطي جثث جيش الفلسطينيين هذا اليوم لطيور السماء، وحيوانات الأرض، فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل، وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح، يخلص الرب، لأن الحرب للرب، وهو يدفعكم ليدنا. وكان لما قام الفلسطيني، وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف، للقاء الفلسطيني، ومد داود يده إلى الكنف (الجراب)، وأخذ منه حجراً ورماه بالمقلاع، وضرب الفلسطيني في جبهته، فارتزّ الحجر في جبهته، وسقط على وجهه إلى الأرض، فتمكّن داود من الفلسطيني بالمقلاع والحجر، وضرب الفلسطيني وقتله، ولم يكن سيف بيد داوود، فركض داود ووقف على الفلسطيني، وأخذ سيفه، واخترطه من غمده وقتله، وقطع به رأسه". 
لا تختلف رواية العهد القديم (صموئيل1 إصحاح 17) في كنهها لقصة داود وجوليات، عن رواية القرآن الكريم للقصة نفسها، فقد وردت في سورة البقرة، في ثلاثة مواضع وآيات: الآية (249)/ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ، قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي، إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ، قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّه، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. الآية ( 250)/ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ، قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. الآية (251)/ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ/، وجاء في بعض التفاسير، أن النهر المشار إليه هنا هو "الشريعة" أو نهر الأردن، وقد أسهب المفسرون المسلمون، كما هو شأن من يقابلهم في الدين اليهودي، في استبطان القصة، وكيفية تغلب الفئة القليلة المؤمنة قليلة العدد والعدة، على الفئة الكثيرة غير المؤمنة المدججة بالقوة..
الغريب أن قصة داود وجالوت، أو جوليات كما وردت في العهد القديم، بقيت جزءاً من المخيال الشعبي والنخبوي للعرب واليهود على حد سواء، واشتد حضورها أكثر، بعد "اعتماد" الفلسطينيين تحت الاحتلال الحجر سلاحاً أساسياً في المواجهة مع جنود الاحتلال، وخصوصاً في الانتفاضة الأولى، والثانية إلى حد كبير، قبل أن تلجأ الأخيرة إلى أسلحة أخرى، أشد مضاء من الحجر.
واليوم عاد الحجر، وثنائية داود وجالوت لتصدر المشهد، في ما يمكن أن يسمى الانتفاضة الثالثة التي أشعلتها اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي، بجنوده ووزرائه ومتدينيه وعلمانييه و"سُيّاحه!" المُفترَضين على المسجد الأقصى.
تحول الحجر، فلسطينياً، إلى "أيقونة" ترمز إلى المقاومة والنصر، لكنها تستمد قوتها من بعدها
التاريخي والأسطوري، المرتبط بقصة داود وجوليات، حتى إن صورةً لشاب فلسطيني يجلس قرب كومة حجارة داخل المسجد الأقصى، مستعداً للمواجهة القادمة، تحولت إلى رمز للمقاومة، وحظيت باهتمام منقطع النظير على شبكات التواصل الاجتماعي، وهي نفسها، وبقية مشاهد الفتية المتمنطقين بالحجر و"النقافة" قاذفة الحجر أو "المقلاع"، صارت أيضاً مدار بحث "قانوني" و"دستوري" و"أمني" في دوائر صنع القرار في الكيان الصهيوني، لتشديد العقوبة على راشقي الحجارة، والحكم باعتقالهم حتى عشرين عاماً، وتغريم ذويهم بمبالغ طائلة، واستأثرت باهتمام عدد لا بأس به من الكتاب أيضا، وأخذت المسألة أشكالاً عدة من الاهتمام، ابتداء من تغليظ العقوبات على رماة الأحجار، وانتهاء بتبادل الأدوار بين داود وجوليات.
تكتب عميرة هاس، في مقال في صحيفة هآرتس (27/ 7/ 2015) بعنوان: "الضحية جوليات": جوليات أيضاً كان له الحق بالدفاع عن نفسه أمام داوود. هذا ما يمكن فهمه من أقوال عضو الكنيست، نيسان سلوميانسكي، من "البيت اليهودي" ورئيس لجنة الدستور، حينما قدم اقتراح قانون تشديد العقوبة على راشقي الحجارة. "قتل داوود جوليات الفالستي القوي بواسطة حجر، بكلمات أخرى، الحجر يقتل". منذ بدء الدولة كنا بحاجة الى تشبيهات من التوراة لزيادة سيطرتنا. وحسب ما أذكر، فإن المعلمين في المدارس تفاخروا دائماً أننا داوود، وأنه ليست "النقافة" فقط المطلوبة لقتل جوليات، بل أيضا العقل والسرعة. فرحنا كثيراً وشمتنا بجوليات القوي والضخم. لكننا لم نكن أبداً داود أمام الفلسطينيين، إلا أننا زعمنا ذلك. تنازل سلوميانسكي عن التعالي، وهو يستحق التقدير على صدقه. كان يمكنه الحديث عن إحصاء أحداث رشق الحجارة في "يهودا والسامرة-ستان"، لكنه وجد صعوبة في التنازل عن رواية مفصلية، وعكَس استخدامها، وأثبت أننا بالفعل: جوليات. جوليات الضحية".
ليست عميرة هاس، وهي كاتبة يسارية، وحيدة في استدعاء ثنائية داود وجوليات، فقد انتشرت هذه الصورة كثيراً فيما يكتبه الصحافيون والمحللون العبريون، حتى بتنا أمام اعتقاد أنها استوطنت المخيال اليهودي، وغدت هاجساً يعبّر عن نفسه بصور مختلفة، ليس أعنفها إعلان رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أخيرا: الحرب على حجر داود الفلسطيني، حين قال: حان الوقت لإعلان "الحرب رسميا" على كل "الداووديين" راشقي الحجارة، لأن الحجر الذي قتل به داود اليهودي جوليات الفلسطيني لم يزل في يد داود الذي تفلسطن، ضد جوليات الذي تهوّد.
الحجر المجرد لا يهزم "دولة". ولكن، إن تسلح بالإيمان، أو كما قال العهد القديم: "ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب"، يصبح للمعادلة شأن آخر، والكف تناطح المخرز.