.. في استعصاء التداول على السلطة

.. في استعصاء التداول على السلطة

28 مارس 2015

العمل بمبدأ توريث السلطة نقيضاً للتداول (Getty)

+ الخط -

ركزت، في مقالة سابقة، عن معضلة التداول السلمي على السلطة في المشهد السياسي العربي، على البعد المعاصر، وستركز هذه المقالة على البعد التاريخي، لأهميته في تفسير هذه الظاهرة التي تعود، بجذورها، إلى عصر الخلافة الراشدة التي سرعان ما تأزمت بسبب الصراع المبكر على السلطة، فكانت الفتنة الكبرى، وأول الحروب الأهلية في تاريخ الدولة الإسلامية.

يُرجع محمد جابر الأنصاري محنة السياسة العربية، إلى الانقلاب التاريخي للمرجعية القبلية (المفعول القبلي) على الدولة الإسلامية، بمجرد وفاه الرسول، إذ لم يكن هاجس المسلمين الأوائل طبيعة الحكم الذي تجب إقامته، بل من سيحكم (من أية قبيلة وأية عشيرة)؟ فبدل البت في طبيعة الحكم، تم الفصل في "ذاتية" الحاكمين، (هويتهم وانتماءاتهم القبلية والعشائرية)، يقول الأنصاري. وتعبر حادثة سقيفة بني ساعدة على هذا الانحراف في مقاربة الشأن السياسي.

ولو حللنا هذا التأزم المبكر للخلافة الراشدة التي سرعان ما فقدت رشدها، لوجدنا أن منطق أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب، كان سيد الموقف. فقريش (المهاجرون) تمكنت من تجاوز صراعاتها المكية لما قبل الإسلام، وتوحدت ضد الأنصار الذين لم يتمكنوا من تجاوز نعراتهم التقليدية، وفرضت عليهم إرادتها. لكن هذا المفعول القبلي الأشمل سرعان ما تبدد، بعد استحواذ المهاجرين على السلطة، ليترك المجال للمفعول القبلي الأضيق، حيث عاد قطبا التنافس المكي (بني أمية وبني هاشم) إلى الواجهة السياسية، متخذاً صبغة دينية لتمويه الأمة. ويبدو أن خلافة كل من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب كانت بمثابة مرحلة استعداد وتحضير للجولة المقبلة من الصراع، التي ستكون هذه المرة بينية، بين قريش، بعدما كانت الأولى بين المهاجرين والأنصار، والتي انتهت باستيلاء المهاجرين على السلطة سلمياً.

بدأت الجولة الثانية، لتتسبب، فيما بعد، في حرب أهلية طويلة الأمد، لما تأجج الصراع السياسي، فالمسلح، على السلطة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. هكذا تراجع المفعول القبلي لصالح المفعول العشائري، لأن الصراع أصبح بين بني هاشم (علي) وبني أمية (معاوية) حول أحقية السلطة. انقسام العشيرة الهاشمية على نفسها، ودخولها في حرب بينية (معركة الجمل) بين أتباع علي وأتباع عائشة، أضعفته، وشوشت فترة وجيزة على الصراع الهاشمي-الأموي الذي عاد بالدولة الإسلامية إلى الثنائية القطبية المكية لما قبل الإسلام. بلغ الصراع المركزي الهاشمي-الأموي أوجه مع الحرب (دُشنت بمعركة صفين) لينتهي بسيطرة الأمويين على السلطة، وتحويل الخلافة، أو ما تبقى منها، إلى ملك عضوض، مفتتحين بذلك أسوأ مقاربة للسياسة في التاريخ العربي-الإسلامي، ما زالت الأمة تعاني من تبعاتها.

هكذا كان (ولا يزال) الاحتكام إلى القوة في الصراعات على السلطة، النمط السائد في التاريخ العربي-الإسلامي. وتعد جولة الصراع الكبرى بين علي ومعاوية في غاية الأهمية، بالنظر إلى إشكالية التداول. فبغض النظر عن المبررات والمسوغات التي يسوقها كل طرف، فإن معاوية رفض مبدأ التداول السلمي على السلطة، من منطلق عشائري. فالخلافة كانت في يد الأمويين مع عثمان، وبعد مقتله، لم يكن بنو أمية على استعداد للتفريط فيها. وكان سلوكهم هذا ينذر بتحويل الخلافة إلى ملك عضوض، والعمل بمبدأ توريث السلطة نقيضاً للتداول، ودرعاً يحمي السلطة الأموية المفروضة قهراً. بمعنى أن مجرد رفض وصول خليفة غير أموي إلى الحكم – الذي أصبح فيما بعد من غير المفكر فيه – يعني وجود قناعة راسخة بضرورة رفض التداول على السلطة، ولو اقتضى ذلك اللجوء إلى القوة.

ومن ثم، تعود معضلة التداول السلمي على السلطة في العالم العربي، أيضاً، إلى رفض إعادة إخضاع منصب الخليفة إلى البيعة، لأن ذلك يعني احتمال عدم بقاء الخلافة في أيدي بني أمية. من هذا المنظور السياسي (لا الديني)، فإن الجدل حول القصاص (الفوري) من قتلة عثمان ليس إلا حجة لرفض خلافة علي، وإعادة الخلافة إلى "البيت" الأموي.

ومن الواضح أن غلبة المفعول القبلي، بمختلف تفرعاته، على الوازع الديني، أصبحت عاملاً مؤسساً للسياسية في الدولة الإسلامية. فهو بدأ مع حادثة السقيفة، ويمكن، أيضاً، ملاحظته، من خلال المقارنة بين الولاة الذين عينهم عمر (وازع ديني ومنطق الكفاءة) والذين عينهم خلفه عثمان (مفعول قبلي ومنطق الولاء). والشيء نفسه يقال عن مؤسسي الدولة العباسية، الذين انتقموا للهاشميين بتدمير الدولة الأموية، وحتى تصفية عدد كبير من الأمويين (كما فعل الأوميون مع معارضيهم). لأنهم قالوا بالحكم لسلالة عبد المطلب الهاشمي، ولم يرفعوا شعار "أهل البيت" ومضامينه الدينية، الذي رفعه أتباع علي. كما أن استراتيجية العباسيين (مثل استراتيجية الأمويين) كانت، هي الأخرى، سياسية بالأساس، لأنهم استغلوا التمييز الذي مارسه الأمويون بين المسلمين، بتفضيلهم العرب، وبالتحديد قريش التي اختزلت في بني أمية. بالطبع، لم يكن هدف العباسيين التداول، وإنما إزاحة الأمويين من السلطة، ليحلوا محلهم.

وقد فتح الأمويون الذين ثاروا على السلطة رفضاً للتداول المجال لمعارضةٍ، لازمت حكمهم، (فتن كثيرة امتداداً للفتنة الكبرى)، وضعوا الأمة الإسلامية على طريق سياسي غير قويم، تعذر فيه تقويم اعوجاج الحكام، واستحال فيه التداول السلمي على السلطة.