إيران وجنون العظمة

إيران وجنون العظمة

26 مارس 2015
+ الخط -
لا يكاد أحد في عمّان يأخذ على محمل الجد نفي السفارة الإيرانية تصريحات قاسم سليماني، قائد ما يسمى فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، بشأن الأردن. وقد تولى القسم الإعلامي في السفارة عملية "النفي" في بيان شديد اللهجة، "ما نسب" لسليماني، وفيه أن "هذه الأخبار والتحليلات الكاذبة تحمل، في طياتها، مخاطر قد تنعكس على الرأي العام".
ووفق بيان السفارة، فإن دائرة العلاقات العامة في الحرس الثوري في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أصدرت، بعد فترة وجيزة من نشر الخبر المنسوب إلى الفريق سليماني، والتحليلات الصادرة حوله، بياناً نفاه بشدة، ووصفه بأنه لا أساس له من الصحة، وجاء في البيان "أن الحرس الثوري يحتفظ لنفسه بحق الملاحقة القانونية، عبر السلطات الشرعية والمحاكم القضائية، كون هذه الأخبار الملفقة والمفبركة تترك آثاراً سلبية لدى الرأي العام، ويؤكد أنه سيتخذ الإجراءات اللازمة بهذا الخصوص". ودعت السفارة "جميع الأطراف الحريصة على خلق مناخات من الود والاحترام والعمل المشترك إلى توخي الحذر والانتباه الشديد تجاه التعامل والتعاطي مع الأكاذيب والأخبار الملفقة والسموم التي تبث، هنا أو هناك.
وتعكس شدة بيان السفارة مدى الحرص على نفي تلك التصريحات، في وقت شهدت العلاقات الأردنية الإيرانية حراكا رسميا يهدف إلى إعادة ترميمها، بعد أن بدا أن طهران قريبة جدا من إبرام اتفاق مع المجتمع الدولي بشأن برنامجها النووي، فبعد برود في هذه العلاقات، استمر أكثر من عشر سنوات، توالى سيل من الأخبار المفاجئة، تشي بعودة "الدفء" لها، بعد الزيارة المفاجئة التي قام بها وزير الخارجية الأردني، ناصر جودة، للعاصمة الإيرانية، وتوجيه رسالة من الملك عبد الله الثاني لتهنئة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، إضافة إلى استقبال وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، هايل داود، المرجع الديني اللبناني، حسين فضل الله، ثم تصريحات وزير السياحة والآثار عن رفع الفيتو الأردني على زيارة الإيرانيين المراقد وأضرحة آل البيت في مدينة مؤتة، ثم استقبال الملك عبدالله
الثاني رئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، عمار الحكيم، وتصريحاته عن "وقوف الأردن الكامل إلى جانب الأشقاء العراقيين، ودعم مساعيهم في محاربة الإرهاب وتنظيماته، وبناء حاضر ومستقبل أفضل للعراق، وتمكينه من ترسيخ وحدته الوطنية، وبمشاركة جميع أطياف الشعب العراقي"!
ولم يمنع هذا "المناخ الإيجابي" الأردن من الرد على تصريحات سليماني، حين قال مصدر أردني لصحف محلية إن "الجيش والأجهزة الأمنية قادرة على رد أي تدخل أو عدوان أو محاولة زعزعة أمن واستقرار المملكة"، من دون إشارة إلى اسم سليماني، وقال المصدر: "جرب الكثير محاولات زعزعة أمن الدولة، وإحداث اختراقات على الحدود، لكن القوات المسلحة الجيش العربي المصطفوي والأجهزة الأمنية كانت لهم بالمرصاد، داعيا إلى عدم الالتفات لمثل هذه التصريحات التي تحاول استفزاز علاقات الدول"، ما يعني أن هذه التصريحات لم تعكر صفو برنامج إعادة بعث الحياة بالعلاقة الإيرانية الأردنية.
ولم تكن تصريحات سليماني، الخارجة عن هذا السياق، مفاجئة للمراقبين، كونها تعكس نشوة انتصار إيرانية، غير مسبوقة، بعد أن شعرت قوى الجمهورية الإسلامية أن مشروعها الإقليمي قاب قوسين أو أدنى من التحقق. وكان سليماني قد قال إن "بلاده حاضرة في لبنان والعراق، والبلدان يخضعان، بشكل أو بآخر، لإرادة طهران وأفكارها"، وأن "إيران بإمكانها التحكّم في هذه الثورات لتوجهها نحو العدو، وهذه الإمكانية متوفرة في الأردن". وقد نقلت هذه التصريحات وكالة "إيسنا" الإيرانية للأنباء شبه الرسمية، وأدلى بها في ندوة بعنوان "الشباب والوعي الإسلامي"، بحضور شبانٍ من بلدان عربية شهدت ثورات ضد أنظمة الحكم، وقال سليماني إنه تتوفر في الأردن إمكانية اندلاع ثورة إسلامية، تستطيع إيران أن تتحكم فيها و"توجهها ضد العدو". وبشأن الأحداث في سورية، أعرب سليماني عن دعم بلاده الكامل نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وقال إن "الشعب السوري موالٍ للحكومة بالكامل، ومؤيدو المعارضة لم يستطيعوا تنظيم تجمّع مليونيّ واحدٍ ضد الحكومة"، ورأى أن الثورات العربية "تأخذ طابعا إسلامياً رويدا رويدا، وتتبلور مع مرور الزمان على شاكلة الثورة الإسلامية الإيرانية"!
وكانت الوكالة نفسها قد نقلت تصريحات مشابهة، قبل أيام، لعلي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، ووزير الاستخبارات السابق، يرسم فيها، بمنتهى الوضوح، حلم بلاده وتطلعها، وقد أخذته النشوة بالانتكاسات التي منينا بها، عربا وسنة، في غير موقعة، وقال إن "إيران اليوم أصبحت امبراطورية، كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد حاليا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي". ولا يخفى، هنا، أن ثمة إشارة إلى إعادة الإمبراطورية الفارسية الساسانية قبل الإسلام التي احتلت العراق، وجعلت المدائن عاصمة لها، ما يعني أن تلك الغلالة الإيمانية الرقيقة التي تدثرت بها إيران، طوال سنوات، لم تكن غير طلاء خارجي، لم يستطع النفاذ إلى "مخ" العقل الجمعي الإيراني.
وقبل أن يسارع أحد لاتهام كاتب هذه السطور بالتصيد في مياه ذلك "الشيخ" المعمم، لا بد من استدعاء حقيقة، يعرفها كل من غاص في المشهد الإيراني عن كثب، وقد أتيحت لي هذه الفرصة، عبر زيارات عدة لطهران، وقفت، في ما وقفت فيها، على حقائق بالغة الأهمية، منها وجود تيار إيراني يتبنى "التغريب" في مواجهة ما يسمونه "التعريب"، ويعنون به "احتلال" العرب المسلمين بلاد فارس، وإطفاء نار المجوس، وهو شعور قومي متأصل في تلك البلاد، وله مناصروه، من متدينين وعلمانيين. وبدا أن الشيخ المعمم نسي ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الإسلام، مستدعيا ثارات فارس، متطلعا إلى عز إمبراطورية ساسان، فيكمل في الحديث الذي نقلته وكالة الأنباء نفسها "إيسنا" للطلبة الإيرانيين في منتدى "الهوية الإيرانية" في طهران، فيقول مهاجما معارضي النفوذ الإيراني في المنطقة، أن "كل منطقة الشرق الأوسط إيرانية"، و"سندافع عن كل شعوب المنطقة، لأننا نعتبرهم جزءاً من إيران، وسنقف بوجه التطرف الإسلامي والتكفير والإلحاد والعثمانيين الجدد والوهابيين والغرب والصهيونية"، ويكمل رسم حلمه المريض، فيهاجم تركيا ضمنياً، قائلا "إن منافسينا التاريخيين من ورثة الروم الشرقية والعثمانيين مستاؤون من دعمنا العراق"، مؤكدا، أخيرا، أن بلاده تنوي تأسيس "اتحاد إيراني" في المنطقة، قائلا "لا نقصد من الاتحاد أن نزيل الحدود، ولكن كل البلاد المجاورة للهضبة الإيرانية يجب أن تقترب من بعضها، لأن أمنهم ومصالحهم مرتبطة ببعضها".. خاتما قوله بنفي يزيد المؤكد تأكيدا: "لا أقصد أننا نريد أن نفتح العالم مرة أخرى (قالها قبله مسؤول آخر إن إيران تسيطر بالفعل على أربع عواصم عربية عسكريا!)، لكننا يجب أن نستعيد مكانتنا ووعينا التاريخي، أي أن نفكر عالميا، وأن نعمل إيرانيا وقوميا".
وقد صدر في طهران، فيما بعد، ما "ينفي" هذه التصريحات، كما العادة، لكن النفي لم يكن إلا تأكيدا لما قيل، وما أكده في ما بعد قاسم سليماني، الذي تستكمل تصريحاته رسم ملامح الحلم الإيراني.
إيران سكرى الآن بالانتصارات التي يحققها مشروعها، وتشعر بنشوة غير مسبوقة، والمؤسف والمخزي أنه لا يوجد، حتى الآن، مشروع عربي أو إسلامي يواجهه، غير مشروع "العثمانيين الجدد!" كما يسميهم بعضهم، والذين يثيرون غيظ إيران، وحنق كثير من أبناء قومنا أيضا، ممن يعانون من وجود غشاوة على أعينهم، تحجب عنهم رؤية الحقائق.