حروب الذئاب المنفردة

حروب الذئاب المنفردة

05 فبراير 2015
+ الخط -

أعجبت وأنا أقرأ بعض خلاصات التقارير الاستخباراتية، في موضوع حادثة جريدة شارلي إيبدو (7 يناير/كانون ثاني 2015)، بتسمية الذئاب المنفردة التي أطلقت على مرتكبي الاعتداء. فقد أثارني أن أجد هذه التسمية المليئة بإيحاءات عديدة في قصاصات التقارير الأميركية والأوروبية، في تحليلها ما حصل. وسألتُني: كيف استطاع المخبرون ورجال الأمن بلورة هذه التسميات، وهم يفكرون في وقائع مماثلة لما حصل في باريس، وحصل، قبل ذلك، في مناطق أخرى من العالم؟

تشير تسمية الذئاب المنفردة إلى أن ما وقع من عمليات إرهابية لم يحصل من تنظيمات معينة، بل إنه محصلة أفعال ذئاب منفردة. توقفت كثيراً عند مفردة الذئاب المنفردة، وما يرادفها من مفردات مركبة مماثلة، من قَبِيل الذئاب المعروفة، وأضفتها إلى تسميات أخرى، سبق ورودها في معارك سابقة، يتعلق الأمر بالخلايا النائمة والخلايا في طور الفعل، فقد وضعت هذه التسميات لإصابة أهداف بعينها.

وعلى الرغم من أني، عادة، لا أفكر فيما يجري، اليوم، في مناطق عديدة بمنطق السببية الخالص والمباشر، وأفترض أن الأحداث، من قبيل ما نحن بصدده، تندرج في عداد الحوادث المختلفة والمركبة، بل والمرتبة في أفق صراع قائم بصور عديدة في العالم، إلا أن إيحاءات التسمية جعلتني أقترب من قضايا أخرى، بدت أنها متصلة بما حدث في "شارلي إيبدو" ورسومها.

وقبل تحليل التسميات المذكورة، وإبراز ما تخفيه من معان دالَّة، أشير إلى أن حادثة "شارلي إيبدو" تُعَدُّ جزءاً من أحداث مماثلة تقع في فلسطين، كما تقع في العراق وسورية وليبيا. وعندما نندد بعمليات القتل الحاصلة بين مواطنين فرنسيين، سواء منهم من يندرجون تحت

تسمية الذئاب، أو الذين هم في عِدَاد الضحايا، فإن التضامن يُعَدُّ، في نظرنا، موقفاً مبدئياً، إنه تضامن مع كل الذين يُحاصَرُون ويُقتلون، يومياً، من دون أن يتم تضخيم ما حصل، أقصد الممارسات الإرهابية في المناطق الأخرى التي أشرنا إليها، تمثيلاً لا حصراً.

تعدَّدَت الذئاب، هنا وهناك، الأمر الذي جعلني أتساءل عن علاقة ما حصل بكتابين صدرا، أخيراً، في فرنسا؛ الأول "الانتحار الفرنسي" لإيريك زَمُور، يتحدث فيه عن الانهيار الحاصل، اليوم، في فرنسا أمام الإسلام، ويطالب، في صحيفة إيطالية، بترحيل 5 ملايين مسلم من فرنسا. والثاني عمل تخييلي عنوانه "خضوع" للكاتب والروائي ميشال ويلبَيك، يتصور فيه أن فرنسا ستصبح بلداً مسلماً سنة 2022، تحت قيادة رئيس مسلم، يعمل على نشر شرائع الإسلام في فرنسا، حيث يشبه جنون التخييل في النص المذكور جنون تحرك من دخلوا مقر الصحيفة. ويمكن أن نضيف إلى ذلك شعارات منظمة بجدا pegeda، حيث ينتظم القوميون الأوروبيون، الذين يناهضون ما يسمونها أسلمة الغرب، بهدف تغذية التمييز العنصري، وتوسيع مجالات التطرف الفعلي والمتخيل وصوره.

ما هي علاقة هذه الكتب بحدث "شارلي إيبدو"؟ لا يجب أن نُغْفِل، أيضاً، أن ما يُقال عن علاقة الحدث الإرهابي بالرسوم الكاريكاتورية عن النبي محمد، قد لا يكون كافياً لتفسير ما حصل، فالذئاب المعروفة والذئاب المنفردة هي التي عملت على تحويل "شارلي إيبدو" من مؤسسة فوضوية ساخرة، من صحيفة تفتخر بغبائها وخبثها، إلى صحيفة ساخرة من كل شيء، تُندِّد في رسومها بالظلم والعنصرية، كما يُندِّد رسَّاموها بالانتهاكات الحقوقية وانتشار التسليح، إلا أنهم يعرفون أيضاً أنها صحيفة تحوّلت، في السنوات الأخيرة، من التعبير الإعلامي الذي يدعي أنه غير المنحاز، إلى صحيفة موظفة للدفاع عن أمرين متناقضين، الأول أنها عنوان بارز في باب حرية التعبير، والثاني يتمثل في أنها تعدّ موقعاً إعلامياً يحرص على إرضاء اللوبي الصهيوني في فرنسا وإسناده.

توجد الذئاب المنفردة في كل مكان، خصوصاً، ونحن في زمن تغير فيه منطق الصراع والحرب، حيث أصبح يوظف البشر كما توظف العقائد لإصابة أهداف عديدة. لا يجب أن نبحث عن الذئاب في الغابات، وفي مجال الإعلام، أو نبحث عن ذئاب الصحارى، والذئاب التي لا دين لها، فنحن، اليوم، نعيش في عالمٍ تخترقه حروب جديدة، سواء في شكلها أو آليات عملها.

الحروب المشتعلة، اليوم، في مناطق عديدة توجّهها أوهام عقائدية، تشمل التصورات والأفكار التي تحوِّل المذاهب والعقائد إلى دوغمائيات صنمية، حيث يتم استبعاد التاريخ وتحويل الأفكار إلى نماذج نظرية مغلقة (إسلام، غرب)، نماذج يتخاصم العالم بواسطتها وانطلاقاً منها. ويحول هذا الموقف العقائد من أدوات مساعدة على الفهم والإدراك والتعقل، ومحدد لتصور معيّن عن الإنسان والعالم والتاريخ، إلى أدوات مُرْبِكة لآليات الحوار والفهم والتواصل. إننا، إذن، أمام مواقف تستبعد، كما قلنا، لغة التاريخ، لمصلحة لغات أخرى، تحتفي بالمطلقات، وتعادي التاريخ.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".