منطق "انسوا إيران"

منطق "انسوا إيران"

28 فبراير 2015
+ الخط -
من المفهوم أن تتبنى دول عربية المقولة الأميركية إن الإرهاب يمثله فقط تنظيم داعش، وإن التركيز ينبغي أن يتجه إلى مكافحة هذا التنظيم واستئصاله في كل مكان، فالدول ترسم سياستها الأمنية وفق جدول أولويات حسّية وآنية، يتقدم فيها العاجل على الآجل، والأمني على السياسي، والسياسي على الاستراتيجي. لكنه من غير المفهوم، أو المنطقي، أن يحكم هذا المنظور رؤية معلقين سياسيين وخبراء إعلام. فالإرهاب كان قائماً قبل داعش، وكل ما في الأمر أن حدّته زادت، ووتيرته تضاعفت في منطقتنا، بعد ظهور هذا التنظيم البربري. من غير أن يقترن ذلك بتوقف جماعات إرهابية أخرى عن أنشطتها، ومنها، على سبيل المثال، القاعدة (التنظيم الأم الذي انشق داعش عنه)، ومن دون أن يعني صعود داعش تغيراً في البيئة السياسية والاجتماعية التي استغلها داعش أبشع استغلال في تمدده. والمقصود بهذه البيئة الاحتراب الطائفي، تحت عناوين وطنية براقة، وقذف مبدأ المواطنة جانباً، وتوجيه التحشيد الطائفي ضد المدنيين والمرافق المدنية. بل إن الأمور أخذت اتجاهاً معاكساً، فبدلاً من الرد على طائفية داعش، وتوحشه، باصطفاف وطني، وبإعلاء شأن العدالة، فإن الانقسام الطائفي اشتدت حدّته
وارتفعت وتيرته، وجرى ويجري استغلال الحرب المشروعة والمطلوبة ضد داعش، من أجل التغليب الطائفي، وبالتساوق مع أجندة سياسية ومذهبية توسعية من خارج الإقليم العربي، فيما المطلوب مكافحة داعش بلا هوادة، وفق منظور وطني وقومي عام، هنا وهناك، يقيم دولة العدالة والقانون، ويحفظ قولاً وعملاً الهوية العربية، ولا يسوّغ أي إرهاب، تحت لواء مكافحة الإرهاب، ولا يستدخل أي طرف أجنبي للتحكم بمقاليد الأمور، وتصديع سيادة الدول واستقلالها، وهتك نسيج المجتمعات، وإعادة هندستها، وهو أمرٌ عرض جوانبَ منه كاتب هذه السطور في مقالات سابقة، وتناوله معلقون عرب ممن يواكبون الأحداث، إضافة إلى مواقف وتصريحات فاعلين سياسيين في مناسبات مختلفة.
بالاحتكام إلى الواقع والوقائع، وليس التفضيلات الأيديولوجية والانحيازات السياسية المسبقة، فإنه جرى استغلال الحملة الدولية والإقليمية ضد داعش في سورية والعراق، من بغداد وطهران ودمشق، لمواصلة حملة الإبادة التي يتعرض لها الشعب السوري، حيث لم يمض يوم واحد من دون إلقاء براميل متفجرة من الطائرات على أحياء سكنية في حلب وحمص وريف دمشق، وسواها من المناطق، فيما تنشط على الأرض مليشيات طائفية لبنانية وعراقية وأفغانية ويمنية، تحمل مسميات طائفية، ترتكب فظائع ضد المدنيين، وتواجه في بعض الحالات جبهة النصرة، بما يجعل هذه المليشيات والنصرة سواء بسواء، في النزوع الطائفي واستهداف المدنيين لغايات سياسية، وهذا هو الإرهاب بعينه.
تتمتع هذه المليشيات برعاية الراعي الإقليمي الإيراني تمويلاً وتدريباً وتخطيطاً، وقد باتت أخبار تنقلات الجنرال قاسم سليماني على "الجبهات" السورية والعراقية من الأخبار الروتينية شبه اليومية. فيما سبق لتنظيم داعش أن احتل الرقة في العام 2013، وقبل زهاء سنة من اجتياح الموصل واحتلالها، لكن المليشيات المشار إليها لم تحرك، آنذاك ساكناً لإنقاذ الرقة من داعش، والسبب أن هذا التنظيم كان يوجه نيرانه ضد المعارضة السورية المسلحة في المقام الأول. وحتى أيام الناس هذه، فإن هدف المليشيات الطائفية، المرعية إقليمياً، لا يتجه إلى تخليص الرقة من داعش، بل إلى تحليص حلب وريفها من المعارضة المسلحة، ومن المدنيين، جنباً إلى جنب، والمجازر الأخيرة في ريف حلب من الشواهد الإضافية على ذلك.
والأمر في العراق يتشابه على الرغم اختلاف الظروف، فالحرب على داعش بدل تحشيد الشعب لها ضمن رؤية سياسية وطنية، فإن الحشد الشعبي الطائفي هو الذي يجري تظهير دوره على الرغم من مساهمات الجيش والبشمركة والعشائر، وأخيراً، تحدثت منظمة العفو الدولية عن جرائم ارتكبها داعش والمليشيات الطائفية.
من السهل التركيز إعلامياً وسياسياً على داعش فقط، فالوحشية الاستعراضية لهذا التنظيم وعداؤه للجميع وانتشار الفيديوهات المقززة عن مذابحه، كل ذلك يُسهّل تصوير الأمور على أنه لم يكن إرهاب قبل داعش، وعلى أنه لا ممارسات إرهابية، يرتكبها دواعش آخرون. غير أن الموضوعية والرشاد يقتضيان رؤية المشهد من جميع جوانبه، صيانة للأمن المجتمعي والوطني والقومي، راهناً ومستقبلاً. فالمطلوب هو استئصال داعش، وعدم التغافل عن وجود الدواعش
الأخرى، وحتى لا يظهر وحش كبير، ويتسيّد في اليوم التالي للإجهاز على داعش.
أما القول إن إيران مستفيدة من الطريقة الأحادية في مقاربة الإرهاب، فالوقائع تزكّي هذا الاستخلاص، وها هم الحوثيون في اليمن يزعمون أنهم يحاربون التكفيريين في بلادهم، وأن الرئيس عبد ربه منصور هادي بات زعيماً لأحد فروع تنظيم القاعدة في عدن! هذا التدليس المكشوف يأخذ به بعضهم عملياً ممن يقترحون علينا: انسوا إيران! إيران التي تدرب الحوثيين حتى الآن (في إرتيريا) والوحيدة بين دول العالم التي تتعاطى بإيجابية مع انقلابهم. "انسوا إيران" حتى لو وصل الجنرال قاسم سليماني إلى جنوب سورية على الحدود الأردنية، وبات يطلق تهديدات ضد دولة عربية أخرى، هي الأردن.
يقود أحد الوالدين طفلهما لتمكينه من عبور الشارع بسلام. وشيئاً فشيئاً يكبر الولد ويكتسب بعض الخبرة في عبور الشوارع التي تعبرها العربات، ويطلب تحرير يده من قبضة والده أو والدته، وهو ما يفعلانه بالتدريج مع توصية ثمينة للولد (أو البنت): انظر لحركة السيارات من الاتجاهين، لا من اتجاه واحد. انظر إلى الشمال واليمين، قبل أن تجتاز الشارع. هذه التوصية ترافقه طيلة عمره، وتكفل له السلامة.
هناك من يقترح على الكبار، الآن، النظر باتجاه واحد: باتجاه داعش. حتى لو كانت هناك دواعش أخرى ترتكب الفظائع، وتتكتم عليها، لكن الشهود الكثر حاضرون عليها، بمن فيهم ذوو الضحايا والمقتلعون من بيوتهم ومناطقهم، بفعل التطهير الطائفي.
ملاحظة أخيرة: تنظيم داعش يستهدف الجميع، وقد نال، في البداية، بطريقة وحشية من ضحايا غربيين، الأمر الذي أثار حفيظة الغرب عليه، وجعل هذا الغرب يُجرّد حملة عسكرية عليه. بينما المليشيات الطائفية، في الجهة المقابلة، تستهدف مكوناً اجتماعياً وإسلامياً واحداً هو مكوّن الأكثرية. وبالطبع، هذا لا يلحق الضرر المباشر بالغرب، لكنه يطعن النسيج الثقافي والسياسي لمجتمعاتنا نحن في الصميم. لن ننسى ذلك، لن ننسى الدور الإيراني المتواصل، كما لن نغفل عن داعش، ووجوب مكافحتها وشرعية هذه المكافحة.