غسان مطر في مكابدته الأخيرة

غسان مطر في مكابدته الأخيرة

23 فبراير 2015

غسان مطر ... أدمت قلبه مراحل حياة متوجعة

+ الخط -
بينما الفنان الفلسطيني، غسان مطر، معلّق بين الحياة والموت، في مكابدة أخيرة تشق على إنسان في السابعة والسبعين؛ يصعب على من يعرفونه اختزال شريط عمره المسكون بوجع مديد. فما إن نقول إنه خرج مع أسرته، من مسقط رأسه، يافا سمّية البحر وعروسه، فتى صغيراً في العاشرة؛ حتى تبدأ التراجيديا الأسبق من السينما التي أعطته خيمة صغيرة، ولم تعطه داراً. يغادر الفتى، قبل المغيب، ملاعب طفولته إلى مركب صيد أسماك، يسميه الفلسطينيون "شختورة"، ينوء بحمولته من البشر، لا من الأسماك في تلك المرة، فيما رصاص الصهيونية يلاحق المركب. المشهد كله، بمدينته ووقائعه وشاطئه، بات، في أفضل الاحتمالات، معلقاً في حسابات ومعطيات السياسة والتسوية، إذ تشغلنا، اليوم، عثرات الوصول إلى حال التحقق في خاصرة فلسطين، على أرض في الجبل أو في الوادي. انتهت رحلة غسان تلك على شاطئ شمالي لبنان. كان نصيب الوافدين إلى تلك المنطقة مكاناً ناهداً وموحشاً، تسكنه بقايا حيوانات مفترسة، في محاذاة قرية صغيرة منسية، تسمى البداوي.
في لبنان، اغترفت الثورة من مخزون البشر الفلسطيني، واستوعبت الشباب والمهارات والطموحات والذكرى. كان غسان مطر من الطامحين إلى المشاركة من خلال الفن الذي أحب، فقد أغوته السينما ونجومها، وبخاصة الذين يقدمون أدوار العنفوان. بدأ في 1969 مثلما يريد، نجماً في "كلنا فدائيون" و"الفلسطيني الثائر". لكن ميدان السينما الشاسع، في معظمه، ليس للثورة ولا للسياسة. وباعتباره فناً، يقدم الغرام في كل حكاية؛ لم يكن لغسان نصيب من الأدوار الحالمة التي تتطلب دوراً يتبدّى فيه الممثل منقوعاً في الحب الرومانسي الذي لم يعكر صفوه شيء. ربما كان غسان يمتلك موهبة تساعده على تقديم هذه الأدوار، لكن صوته لا يساعد، ولا في وسعه تسبيل عينيه مغازلاً، وثمّة خطوط في وجهه تنم عن شقاء. وحدها، الممثلة الألمانية، هانا شيغولا، التي ظهرت أمامه حبيبة مخلصة للمناضل الفلسطيني، في "دائرة الخداع" الذي أخرجه في 1981 الألماني فولكر شاندروف. فميدان السينما العربية، ككل ميادين العرب، فيه أفضليات وحظوظ مدبرة وحسابات من يأخذ ماذا. أعطيت لغسان أدوار الشر غالباً، وهو المظلوم تاريخياً، وأدمت قلبه مراحل حياة متوجعة، كانت ذروتها عندما قتلت الطائفية البغيضة أسرته، وهو الذي سمى ابنه جيفارا تيمناً بثائر عالمي، كاثوليكي المنبت ومعادٍ للإمبريالية. الحرج، هنا، يلازم الإشارة إلى قتل جيفارا وأمه وجده والد غسان، بأيدي من يزعمون أنهم ممانعون ومناضلون أكثر من تشي جيفارا، فالذين قتلوا أسرة غسان، هم طائفيو "حركة أمل" الشيعية بتدبير من حافظ الأسد! الحرج ربما لأن الدواعش جعلت الكلام صعباً عن جرائم أسبق من جرائمها.
قبل أن أصل إلى حدود هذه السطور، أستذكر جلسات طويلة وحميمة مع غسان، منها ما تختلط فيه الطرافة بالمرارة. ففي مؤتمر "فتح" العام السادس، طلب مني مشاركته في إعداد قائمة أسماء متضامنة، لكي تنتخب بعضها بعضاً للمجلس الثوري. قلت له إن الناس أعدّت نفسها، واشتغلت على الأمر مسبقاً، وليس أمام الكاتب والفنان الذي ينأى بنفسه عن الكتل والدهاليز إلا أن يخوض الانتخابات باسمه. قال لي "معظمهم لا يعرفونني على المستوى الشخصي، وأنا لا أعرفهم". خاض ولم يحالفه الحظ، أو لم يحالفه أي تدبير.
ظل مسكوناً بفنه، لا تفارقه اللقطة التمثيلية. في إحدى المرّات، على الغداء، كنا، غسان ومحمد صبيح ومروان عبد الحميد وحافظ البرغوثي وبركات الفرا وأنا على طاولة الغداء، وكان معي ابني نضال الذي ظل صامتاً، فبدأ غسان في تقديم لقطات رعب وإضحاك، لعل الطفل يتكلم. لكن الطفل ظل صامتاً حيال غسان، كما المؤتمر، ومثلما هي الآن، غرفة الإنعاش في مشفى "الصفا".