لماذا الانتفاضة الآن؟

لماذا الانتفاضة الآن؟

21 ديسمبر 2015
+ الخط -
لطالما كانت الأسباب الكامنة وراء أي حدث سياسي أو ثوري العامل الأهم لفهم هذا الحدث واستقراء نتائجه، والانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة إحدى هذه الأحداث التي تستحق التدقيق والبحث لاستقراء الميول والرغبات والإرادة الشعبية المنضوية وراءها، ومن الجلي أن الإرادة الأهم هي تحرير الأراضي الفلسطينية من نير الاحتلال الصهيوني، على الرغم من الكلفة الباهظة. تتمثل هذه الإرادة باستعداد الشعب الفلسطيني للتضحية بالأثمن للدفاع عن ممتلكاته المقدسة وغير المقدسة من بيوت وأراض وحقوق وطنية مسلوبة. غير أن الانتفاضة الفلسطينية الراهنة تأتي نتيجة أسباب أخرى، بالإضافة إلى السبب الأساسي، اقتضتها الظروف الحالية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في جميع مناطق الداخل المحتل ومناطق السلطة الفلسطينية، ولا بد من أن تنال هذه الأسباب ما تستحق من طرح، لكي يوجد من يترجم هذه الانتفاضة إلى متطلبات واضحة، تأخذ طريقها إلى التطبيق. من هذه الأسباب:
التأكيد على وحدة القضية والأرض والشعب: وهي رسالة متكررة طالما دأبت الانتفاضات الفلسطينية على تجسيدها في الواقع بالممارسة العملية، بعيداً عن بيانات الزعماء والقوى السياسية والاجتماعية الفلسطينية وخطاباتهم. لكن، اليوم ونتيجة لزيادة الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني، كان رد الفعل الشعبي على هذا الانقسام موجهاً ليس لقوى الاحتلال وحدها، بل وللقيادات الفلسطينية المكرّسة له أيضا، والتي تغلب مصالحها الشخصية والفصائلية، بالإضافة إلى مصالح القوى الدولية والإقليمية الداعمة لكل طرف من أطراف النزاع الفلسطيني على المصلحة الوطنية العليا، ما أدى إلى تعميق الصدع بدلاً من رأبه. بينما تؤكد الجماهير الشعبية على وحدة القضية والشعب، بالممارسة العملية، عبر المشاركة الواسعة في الانتفاضة ومن جميع المناطق، بدءاً بمدينة القدس وغيرها من الأراضي المحتلة وانتهاء بالضفة وغزة، وعبر مطالبة غالبية شهداء الانتفاضة الحالية برفع العلم الفلسطيني في أثناء تشييعهم، تعبيراً عن الحلم المشترك بوطن موحد ومحرّر، يقطنه أبناؤه بعيداً عن تجار القضية والانقسام.
غياب الممثل السياسي للقضية الفلسطينية وللفلسطينيين عموماً: عبّرت الجماهير الفلسطينية سابقاً عن اختيارها القوى السياسية الممثلة لها عبر الاقتراع المباشر أحياناً، أو عبر المظاهرات المنددة بقوة سياسية معينة، والمشيدة بقوة أخرى، كفتح وحماس والجبهة الشعبية والشيوعيين والإسلاميين إلخ.. في حين نلمس، اليوم، رفض الفلسطينيين جميع القوى السياسية، سواء ذات الثقل السياسي والمادي، مثل فتح وحماس أو الفصائل الأخرى، من خلال تكرار تأكيد غالبية شهداء الانتفاضة، إن لم نقل جميعهم، على الطلب الصريح بعدم ربط أسمائهم بعد استشهادهم بأي فصيل، وإنما اعتبارهم شهداء الوطن، أي شهداء فلسطين، ليسحبوا بذلك البساط من الفصائل جميعها، لمنعها من المتاجرة بدماء الشهداء.

ولكن، لماذا هذا الإصرار على نبذ الانتماء لأي قوة سياسية؟ من جهة، نلحظ اكتشاف الفلسطينيين عدم جدية هذه الفصائل على المضي "نحو تحرير الأراضي الفلسطينية، كما تدعي وفقاً لبرامجها المعلنة، على الرغم من امتلاكها إمكانات عسكرية ومادية وبشرية قادرة على تغيير المعادلة القائمة اليوم، ولنا من تاريخ الكفاح الفلسطيني أمثلة عديدة، تعكس قدرة المقاتل الفلسطيني المؤمن بعدالة قضيته على صناعة أحداث أسطورية، وبأبسط الإمكانات من بيروت إلى جنين وغزة وغيرها. لكن الغاية الحقيقية حالياً لجميع هذه الإمكانات الفصائلية هي الدفاع عن مصالح القوى الداعمة، والمصالح الشخصية والفصائلية، بغض النظر عن طموحات الشعب الفلسطيني وآماله. ومن جهة أخرى، نشهد بروز رفض شعبي لمشروعي الهدنة والاستسلام (السلام أو أوسلو) القائم على تكريس إمارة أو دولة وهمية لهذا الفصيل أو ذاك، بينما تتدافع باقي الفصائل، للتقرب من فتح أو حماس، على أمل المشاركة المستقبلية في إدارة هذا الوهم.
الإيمان بأن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحقيق الحلم الفلسطيني: ملاحظ، حتى اللحظة الحالية، عزوف الشباب الفلسطيني عن الاصطفاف ضمن طوابير الفصائل والكتائب المسلحة، بهدف القيام بعمليات استشهادية ضمن مناطق الاحتلال أو قواته، كما كان يحدث في أثناء الانتفاضة الثانية، نتيجة فقدان الثقة به، مع العلم أن هذا النوع من العمليات يتطلب توفر عوامل عديدة، مثل تأمين المواد المتفجرة وتدريب المتطوعين وتحديد المكان والزمان المناسبين، بالإضافة إلى كيفية نقل هذه المواد إلى أقرب نقطة ممكنة، ما يعني أنه يتطلب العمل الجماعي المنظم غير المتوفر حالياً، إلا من خلال هيكلية الفصائل، ما دفع الشباب الفلسطيني إلى التوجه نحو القيام بأعمال فردية، مثل الطعن والدهس، والتي لا تحتاج إلى أي جهد تنظيمي أو تدريبي، كما أنها تؤكد غلبة الكفاح المسلح على باقي الأشكال النضالية المتبعة، وخصوصا ما برز منها بعد الانتفاضة الثانية، كالاحتجاجات السلمية المحددة المطالب (معارضة بناء جدار الفصل العنصري ومعارضة التوسعات الاستيطانية وغيرها...)، فعلى الرغم من مشاركة الناشطين والمتضامنين الأوروبيين والأميركيين فيها، ومحاولة التركيز على أساليب القمع و المواجهة الوحشية من قوات الاحتلال، إلا أن استمرار سياسات الاحتلال قبل المظاهرات السلمية وبعدها أدت إلى إيمان الفلسطينيين بأن الكفاح المسلح هو الطريق الأنجع نحو التحرير.
وهو ما يدفعنا للاعتقاد بأننا نشهد انتفاضة ضد الاحتلال، وثورة ضد من يدّعون تمثيل الشعب في آن، ونظراً لتشعب المهمات وضروراتها، قد نشهد مراحل هبوط وصعود في الحراك الجماهيري، غير أن مسيرة البناء لمرحلة ثورية جديدة قد بدأت، على الرغم من طبيعة المناخ الدولي المواجه والمجابه جميع التحركات الثورية العربية والعالمية، وبتقاسم أدوار واتفاق وتنسيق قلما نشاهده دولياً. ستستمر هذه المسيرة، مدعومة بالتضامن الشعبي العالمي غير المنظم مع جميع الحركات الثورية البازغة اليوم أو غالبيتها، سواء الباحثة عن حريتها السياسية والاقتصادية، أو الباحثة عن التحرير من الاحتلال، وهو ما يبشر ببدايات تشكل مرحلة ثورية عالمية إجمالاً، وفلسطينية خصوصاً، مازالت تتلمس هويتها السياسية وأدواتها الثقافية والاجتماعية.