"الإرهاب له دين"

"الإرهاب له دين"

01 ديسمبر 2015
+ الخط -
"الإرهاب لا دين له".. أتأمل هذا الفاصل التعليمي الذي تزجّ به بعض الفضائيات العربية بين المسلسلات التركية وبرامح الموضة والأزياء، فتقفز إلى ذهني مباشرةً طرفتنا الشعبية: "اللي على راسه بطحة بحسّس عليها"، والمقصود بـ "البطحة" زجاجة الخمر، بمعنى أننا نتصرف كالطفل المذنب، لدفع تهمة تلتصق بنا، كالتصاق البطحة على الرأس.
لا أدري لماذا يراودني إحساس بأن هذا الفاصل المسلوق على عجل يستخف بعقل المشاهد العربي، القادر على التفريق بين الدين والإرهاب، بل أشعر كذلك بأن مثل هذا الفاصل يفترض أن العرب كلهم مشاريع إرهابيين، لا ينتظرون غير إشارة التحرك لتنفيذ العمليات الإرهابية، فيما يسعى الفاصل إلى إعادتهم إلى جادة الصواب، وثنيهم عن خططهم الشيطانية.
أيضاً، ومن باب الاستخفاف بالعقول، يحاول الفاصل نفسه أن يقنعنا بأن الإرهاب لا دين له، ولا حتى معتقد. وهنا، يحق لنا التساؤل: ما الدوافع، إذاً، التي تحرّك الألوف من هؤلاء الشبان، لتعصيب أجسادهم بالأحزمة الناسفة، والإقدام على الموت إقداماً لا يعرف التراجع؟ أتراهم مجرد كائنات بلا عقول ولا تفكير، لم تجد في بلدانها أمكنة للانتحار، فراحت تبحث عنه في مواضع أخرى؟ أم أنهم مجرد شبان مسلوبي العقول ومشلولي الإرادة، ومغيّبين مغناطيسياً، تسيطر عليهم عصابات البغدادي والظواهري وسواهما؟
من يتتبع تحقيقات الشرطة الفرنسية بشأن أحداث باريس، أخيراً، ويقف على مبلغ التخطيط لهذه العملية التي نسجت خيوطها بين عواصم عدة، وقدم منفذوها من أماكن مختلفة، وربما لم يكونوا يعرفون بعضهم قبل تجمعهم في باريس، يدرك جيداً، أن هذه التنظيمات أبعد ما تكون عن "الغباء" الذي تحاول تلك الفواصل "التعليمية" تلقيننا إياه، وأعقد من ذلك الثوب الساخر الذي حاول أن يُلبسه الفنان ناصر القصبي للشخصيات الداعشية في مسلسه الرمضاني الفائت، وأمكر مما حاولت برامج فكاهية لبنانية أن تظهر به داعشيين، لا يعرفون من الحياة غير "جهاد النكاح"، ولا أدلّ على ذلك من قدرتهم على تحقيق عدة أهداف استراتيجية، من قبيل نسف طائرة مدنية روسية في سيناء، وهي أهداف لا تقف عند حد الانتقام من الضربات الجوية الروسية، ولا الثأر من حملات الجيش المصري ضد فرع "داعش" في سيناء، بضرب القطاع السياحي المصري كله.
باختصار، هذه التنظيمات، أو العصابات، أو مهما كانت تسمياتها، لا تصدر عن فراغ عقلي أو عقائدي، بل هي تنظيمات تتطوّر بسرعة مذهلة، وتستخدم أدوات التكنولوجيا الحديثة، بما يفوق قدرتنا، نحن "غير الإرهابيين"، وتستقر في عقولهم قناعات أرسخ مما نعتقد، تحرّكهم وتدفعهم إلى تفجير أنفسهم بإقدام ورضا نفسي تام عما يفعلونه.
وقبل أن نتجشّم عناء تصوير تلك الفواصل "التوعوية"، علينا أن نعترف، أولاً، وقبل كل شيء، وعلى الرغم من قسوة هذا الاعتراف، بأن "الإرهاب له دين"، وأن التبرؤ من هؤلاء الإرهابيين محض إسفافٍ، لا تصدّقه العقول، فهم خرجوا من عباءاتنا ومجتمعاتنا، وربما كان لبعضنا ابن أو أخ أو أب معهم، فضلاً عن أن إسراعنا بإظهار البراءة على طريقة الأطفال المذنبين يشبه المثل "كاد المريب يقول خذوني".
للإرهاب دين، ومهمتنا أن نتمحّص هذا الدين الذي يتبناه هؤلاء، ولا عجب إنْ وجدناه مزيجاً مشوّهاً من ديننا نحن، ولن ينقص من شجاعتنا شيء إذا قلنا إنهم يستندون في إرهابهم إلى نصوصٍ دينية نقرؤها بخشوع، ويؤوّلونها هم بما يخدم همجيتهم، ويتعيّن أن نفهم كيف وظفوا تلك النصوص لتسويغ مآربهم.
هذا ما علينا مواجهته، لأننا أدرى الناس بهذا التوظيف الذي لجأت إليه أنظمة عربية حاكمة، قبل "داعش" وغيرها من التنظيمات السوداء، لتسويغ قمعها وكبتها واستئثارها بكراسي الحكم، ولا غرابة إن قطعت علينا أنظمتنا حبل التحقيق في منتصف الطريق، لأنها تعلم جيداً أن طرف الحبل سيقود إليها، باعتبارها أساس التوظيف الماكر للدين، لتأبيدها على كراسيّ السلطة، وعندها ستعاود التبجّح ثانيةً بأن "الإرهاب لا دين له".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.