هل انتهى ربيع العرب؟

هل انتهى ربيع العرب؟

03 ابريل 2014

من مشاهد الثورة المصرية

+ الخط -

تعلّمنا قراءة محركات التغيير في المجتمعات الإنسانية أَن الثورات التي تعصف بها، بين حين وآخر، ليست "قلي بيض"، بل عملية مستمرة ومعمّقة ومكلفة. وعلى الرغم من كل ما يقال عن ثورات الربيع العربي، لم أَزل مؤمناً بها، بل هي أنبل ما حدث لنا في المئة سنة الماضية، على الرغم من كل حملات التخريب. وعلى سيرة البيض، إِذا استطعت أن تفصل البيض عن مكوّنات قرص "العجّة"، مثلاً، تستطيع، عندها، أَن تعيد الأمة إلى ما قبل الربيع. هو تشبيه قد يبدو غريباً، لكن دلالته عميقة، فالوقائع التي خلّفها الربيع لا يمكن أن تمحوها انتكاسته، وحتى هذه الانتكاسة دليل على صحّة مساره، فلو استقبله مناهضوه بالترحاب والاحتفال، لغدونا في شكٍّ عميق من صحته. أما حينما نرى ذلك الاستنفار الكوني، والتضامن العالمي، لإفشاله وإظهاره بصورة شيطانية، فهذا يعني صوابه وخطورته على البُنى القائمة. بالإضافة إلى أن هناك مسألة في غاية الأهمية، هي أن اتفاق الأضداد والمتنافرين ومختلفي التبعية والانتماء، وتلاقيهم على محاربته، يعنيان أنه بداية خلق جديد.
في هذا يقول ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة: "... وإذا تبدّلت الأحوالُ جملةً، فكأنما تبدّلَ الخَلْقُ من أصله، وتحوّل العالم بأسره، وكأنه خَلْقٌ جديد، ونشأةٌ مستأنفةٌ، وعالَمٌ مُحْدَث"، ونحسب أن الأحوال، فعلاً، تبدّلت في مجملها إبّان ذروة الربيع العربي، وأفرزت ظاهرتين تتغذيان من بعضهما، ولا يمكن التغاضي عنهما. الأولى ظاهرة القوة الشعبية، حيث أَصبحت للجماهير كلمة، ولوقفتها معنى، وكانت مجرد آحاد لها قيمة عددية، بلا وزن نوعي، أما اليوم فشأنها مختلف، حيث غابت العبارات الانهزامية الشهيرة، مثل: وأنا مالي، أو: ماذا أستطيع أن أفعل، أو "حط راسك بين الروس وقل يا قطاع الروس"، وسوى ذلك من مفاهيم انهزامية استوطنت العقل الجمعي، فشلّت قدرة الجماعة على العمل. الظاهرة الثانية التي أَفرزها الربيع العربي، هي الظاهرة الإسلامية، فهي، وإنْ كانت قبله موجودة قيمة ثقافية وحضارية، إلا أنها دخلت مع الربيع معترك الحكم الفعلي، بكل قسوته. وعلى الرغم من أَنها لم تأخذ فرصتها في التجريب والنضج، إِلا أنها حفرت لها اسماً في المشهد السياسي، على الرغم من أخطاءٍ ارتكبتها، وهذا طبيعي، فتلك كانت تجربتها الأولى في الحكم، حتى أَن الأمر اختلط على قادتها، فاعتقدوا أن الاختبار الذي وُضعوا فيه كان "تمكيناً" في الأرض، لا امتحاناً لهم ولخبراتهم، فحصل ما حصل!
هنا تحديداً، يبرز سؤال على جانبٍ كبير من الخطورة، يعني الإسلاميين، وغيرهم، لكنه يختصّ بهم أَكثر من غيرهم، كونهم خاضوا تجربة حكمٍ ما، لم تنضج بما فيه الكفاية، هو: لماذا تُسرق الثورات؟ وكيف؟
سؤال كبير يلحّ على الجميع، ما الذي حلّ بحركة الشعوب وثوراتها، بعدما بدا أَن الأمة تتجه إلى فجر جديد تُحطّم فيه قيود الظلم والطغيان وتهدم قلاع الدكتاتورية؟ أَين ذهبت تلك الأماني والأحلام الوردية التي داعبت خيال "الغلابى" والمحرومين والمقهورين؟ لماذا اصطبغت ثورات الربيع العربي بلون أَسود، وارتبطت بالفوضى والدم، وذهاب الأمن؟ كيف "وقر" في أَذهان كثيرين أَنها لم تكن غير مؤامرة على الأوطان، أَو حركة مسرحية، لتحقيق مآرب "الآخرين". وقد رأينا إسرائيل، تحديداً، ترتعد فرائصها، خوفاً، وتبدأ بإعادة حساباتها، وتعدّ العدّة لـ"مواجهة" طويلة مع شعوب حرة منتفضة، بدا أَنها امتلكت قرارها، وبدأت رحلة الصعود إلى الحرية؟ كيف يستقيم خوف إِسرائيل من ثورات الربيع العربي، مع اعتبارها مؤامرةً على الأمة، "مصنوعة" في مراكز صنع القرار الاستعماري؟ وكيف نفهم اعتبارها مجرد "سايكس ـ بيكو جديد، وفق تعبير أحد أكثر الكتّاب الصحافيين شهرة في العالم العربي؟ وكيف نفهم، أيضاً، اعتبارها لعنةً على الأمة، في وقت تحرّك كل المتضررين لإجهاضها والتآمر عليها، بكل السبل الممكنة؟
يقال إن الثورة لم "تُعطَ" فرصة للنجاح، وهذا كلام بائس ورديء، لسبب وجيه وخطير، هو: لم تُعط الفرصة أَصلاً، وهي تهدّد مصالح، وتقوّض مكتسبات، وتقلب معادلات؟ أَليس من البديهي أَنْ ينهض "المتضرّر"، وينتفض للدفاع عن مصالحه بكل شراسة؟ لمَ كانت "الثورات المضادة"، أَصلاً، على مدار التاريخ؟ ويقال، أَيضاً، إن هؤلاء المتضررين "تآمروا" على الثورات وعلى الشعوب! حسناً، ماذا كنتم تنتظرون منهم؟ هل يمدّون لكم، أَيها الثوار، رقابهم للذبح؟ أَم يحنون لكم ظهورهم لتركبوها؟
وسط هذا الشلال من الأسئلة، تحضرني رؤية للدكتور محمد الغزالي، رحمه الله، في كتابه: "الحق المر" يقول فيها: سمعتُ قائلاً يردّد في أَلم: نحن متفرّقون على حقّنا، وهم مجتمعون على باطلهم! فقلت له: ما أَحسب المتفرّقين على حقهم أَصحاب حق، فطبيعة الحق أَن يجمع أهله! إِن أَعداداً كبيرة من السائرين تحت لواء الحق تكمن في بواطنهم أَباطيل كثيرة، فهم يحتشدون بأَجسامهم فقط تحت رايته، ويبدو أَن المآرب الكثيرة، والأَغراض المختلفة، تجعل لكل منهم وجهةً هو موليها، وذاك في نظري ما جعل ثوراتٍ عديدةً تُسرق من أَصحابها، ويسير بها الشطّار إِلى غايةٍ أخرى، حتى قيل: الثورات يرسمها المثاليون، وينفّذها الفدائيون، ويرثها المرتزقة! تُرى لو كان المثاليون والفدائيون على قلب رجل واحد، في الإيثار والتجدّد، أَكان يبقى للمرتزقة موضع قدم؟ إِن أَخطاءً خفيّة، نستخفُّ بها عادة، هي التي تنتهي بذلك المصير!
هكذا تحدث الغزالي، رحمه الله، وهو ينكأ جرحاً، أَو يفتح ملفاً، لا يريد أصحاب الثورات أن يتحدث به أَحد، بحجّة أنه "مش وقته". ترى متى وقته إذًا؟ لمَ لا يبحث الثوار في قلوبهم عن أَسباب سرقة ثوراتهم؟ لماذا يعلّقون الفشل، أَو قل الاضطرابات التي أَعقبت ثوراتهم، على مشجب الآخرين؟
لماذا تُسرق الثورات؟ تُرى، لو كانت هذه الثورات في "حرز" مصون، هل يتمكّن من سرقتها أَحد؟ ثم، أَيّ الأموال المرشحة للسرقة؟ أَليست تلك المتاحة للحرامي؟ أَلم يُنتج العقل الجمعي الشعبي المثل الرائع الذي يجيب عن السؤال ببساطة شديدة، حين قال: المال السايب يعلّم الناس السرقة؟
لماذا تُسرق الثورات، وتختطف؟ قبل أَن نبحث عن إِجابةٍ لدى الطرف الآخر، علينا أَن نبحث عنها لدى مَن ثار وتوقّع أَن تكون طريقه مفروشة بالورود، ويستقبله الطغاة والمتضررون بأَكاليل الغار وأَقواس النصر!