"العسكرتاريا" المصرية تعيد إنتاج نفسها

"العسكرتاريا" المصرية تعيد إنتاج نفسها

02 ابريل 2014

صور السيسي في شارع مصري تناصر ترشحه للرئاسة

+ الخط -

مسألة لا يمكن إغفالها، هي أَن ظروف مصر، في خمسينيات القرن الماضي، فرضت دخول العسكر ميدان السياسة، نتيجة هزيمة الجيوش العربية في حربها في فلسطين في 1948، وتردي الأوضاع الاقتصادية وشعور الجنود وصغار الضباط القادمين من مناشئ طبقية دنيا بالظلم الواقع عليهم، ومعاناتهم من صعوبات العيش، ونشوء أزمات وتوترات في أوساط النخبة الحاكمة، وانعدام فرص التغيير عبر القنوات الأخرى. ولذلك، وجدت المؤسسة العسكرية نفسها، أو شرائح منها على الأقل، مدفوعة للتحرك باسم القاعدة الشعبية العريضة "للقضاء على الاستعمار والإقطاع، وسيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وجيش وطني قوي، وعدالة اجتماعية"، مدركة أن بقاءها غير عابئة بالتوترات الاجتماعية المتصاعدة يضعها في خانة حماية النظام القديم الذي كان قد أوشك على التشظي والانهيار.

نظرة جديدة لدور العسكر نمت وتوطدت، لاحقاً، بفعل تأثير شخصية جمال عبد الناصر، بما امتلكته من كاريزما، وبما حققه من شعبية غير مسبوقة على المستوى القومي. ركزت هذه النظرة على إمكانية أن يشارك القطاع العسكري في عملية التغيير والتحول، إلا أن العسكر، وحتى في ظل عبد الناصر نفسه، ولغياب تقاليد راسخة تحدد دورهم الوطني في حماية البلاد من الاعتداءات الخارجية، ومواجهة التهديدات الأجنبية، اعتبروا أنفسهم مفوضين بتقويض المؤسسات الدستورية التي كانت قائمة، وإنشاء مؤسسات جديدة، يديرونها بأنفسهم، ويتصرفون بها كما يشاؤون. وبذلك، تغير الدور الذي أوكلته لهم الظروف، وانتقلوا من محرك مفترض، يساعد على التحديث والتنمية، إلى سلطة خفية رفيعة، لا تستأثر بالقرار السياسي فحسب، إنما تستحوذ على الوزارات المهمة والمناصب العليا في الدولة، وتجير لحسابها مؤسسات وشركات غير خاضعة لأحد.

ترافق ذلك مع تصاعد الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وسعى كل منهما للبحث عن موطئ قدم له في العالم العربي، وانتشار الأفكار القومية واليسارية التي ساهمت في تشظي الأنظمة القديمة، وبروز القوى الجديدة التي وجدت في الانقلابات العسكرية الطريق السريع، والمضمون، للقفز إلى السلطة وتحقيق أهدافها، شمل ذلك بعض أقطار إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، حيث تم تقويض المؤسسات التقليدية، وإحلال مؤسسات هجينة محلها، استأثر فيها العسكر بكل الصلاحيات، وأباحوا لأنفسهم الحصول على الامتيازات التي تكفل لهم التفوق المادي والاجتماعي على الفئات الأخرى، حتى تضخمت الأنا لديهم، إلى درجة الشعور بأن البلاد لن تستقر من دونهم، ولن ينعم العباد بالأمن والطمأنينة. لذلك، عمدوا إلى عسكرة المجتمع التي أَدت، بدورها، إلى تصاعد العنف، وظهور التطرف. ونسي الناس ما تعلموه في المدارس من أن الجيوش رموز وطنية خالصة، وظيفتها الدفاع عن البلاد في مواجهة التهديدات الخارجية والغزو الأجنبي، فقد تراجعت هذه المهمات إلى الخلف، لتتقدم عليها مهمات جديدة، سماها منظرو السلطة "مهمات بناء وتحديث". ووفقا لهذه السيناريوهات، تورط كبار الضباط في مهام الدولة المدينة، وشغلوا مواقعها الأساسية، من دون خبرة ولا دراية. وعندما عجزوا عن الإيفاء بمتطلباتها، بسبب طبيعة تكوينهم، وخصوصية تأهيلهم، سعوا إلى شرعنة الدكتاتوريات العسكرية، وإكسابها قبول الجمهور ورضاه.

لم تكن تجربة مصر استثناءً، فقد عمل العسكر فيها لإظهار أنفسهم صالحين، ليس فقط لإنجاز مهمتهم الأساس في ردع التهديدات الخارجية، وإنما، أيضاً، لإنجاز مهمات "بناء المجتمع وتحديثه". وأعطتهم حرب أكتوبر 1973 نوعاً من الزخم الاستثنائي، أتاح لهم تكريس "شرعية"، لم تكن في وارد الناس الاعتياديين، وأباحت لهم التدخل في أمور الإدارات المدنية، جاعلين من أنفسهم قوة ناعمة محدثة، دائماً، طليقة الحركة، وقادرة على رد الفعل بأعلى درجة ممكنة، لمواجهة التحيات.

لكن تحدي الشارع لهم لم يكن متوقعاً، بعد ستة عقود من ثبات أقدامهم على أرضية الواقع الماثل، وخروج الجموع الهادرة، المتمردة على السلطة الغاشمة، والمطالبة بسقوط دولة العسكر، لم يكن في حسبانهم. لذلك، حاولوا، في البداية، احتواء تلك المطالبات، والقفز عليها، والإيحاء بحيادهم، ورفضهم استخدام القوة ضد المتظاهرين، في الوقت الذي سعوا فيه إلى النأي بأنفسهم عن النظام القديم، وسنرى، لاحقاً، انحيازهم الصريح للجماهير، ومساندتهم مطلب تخلي حسني مبارك عن الرئاسة، ومباركة إجراءات تشريع دستور جديد، وإقامة حكومة منتخبة.

وسط تلك الأحداث المصيرية والحاسمة في تاريخ مصر، لم تتراجع المؤسسة العسكرية، في حقيقة الأمر، عن توجهاتها التي رسمتها لنفسها، طوال العقود الستة، إنما شرعت في ما يمكن أن نطلق عليه عملية تحليل الذات (Self-analysis)، بهدف التكيف مع متطلبات المرحلة الجديدة، وإعادة إنتاج نفسها، بما يضمن بقاء نفوذها، وإضفاء صفة الدوام والثبات عليه. لذلك، أخضعت نفسها لتحولات محسوبة، ليس في إقصاء بعض قياداتها المعروفة، أو إبقائها في الظل فحسب، بل في الشروع في حملات إعلامية، بهدف كسب ود الجموع التي كانت تطالب برحيل دولة العسكر، وتطمينها وإسباغ دور "المنقذ" على الشخصية النافذة في المؤسسة العسكرية، المشير عبد الفتاح السيسي، وتسليط الأضواء عليه. وسنكتشف، لاحقاً، كيف يتطور هذا الدور ليتحول الى دعوة "المنقذ" لإكمال المشوار. ولن يجد السيسي بداً من النزول، وبكل تواضع، عند إرادة الشعب، وترك الزي العسكري، والترشح للرئاسة التي أصبحت من حقه وحده!

هذه المرة، لن تكون "العسكرتاريا" المصرية في حاجة لتدبير "انقلاب"، إنما سيأتيها الخير عبر صناديق الاقتراع التي لها القول الفصل، لكن الجموع التي خرجت إلى الشوارع والساحات، لتطالب برحيل دولة العسكر، ستجد نفسها محبطة ومخيبة الآمال. لكن، بعد زمن قد يطول!

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"