الدراسات المستقبلية والبناء الحضاري

الدراسات المستقبلية والبناء الحضاري

18 ابريل 2014
+ الخط -

 
"المستقبل لا يتقرر بشكل نهائي، كما أنه لا يوجد أي مستقبل دائم" صموئيل هنتنجتون

مع تصاعد موجات الربيع العربي، ظن بعضهم أنه قادر على استشراف المستقبل، والتكهن بمسارات الأحداث، وبدأت الأحزاب والقوى المختلفة في صياغة استراتيجياتها العامة، ورسم تكتيكاتها الخاصة، بهدف ترويض المستقبل، وتوجيه مساراته، إلا أن كثيراً من تلك الخطط لفظت أنفاسها أو تكاد.
إن تشوّف المستقبل، ومحاولة التحكم بأحداثه، يرتبط في اللاشعور الإنساني بالبحث عن الأمن والرخاء، وحب التملك والبقاء، يعززها شغف الحصول على البهجة، والوصول إلى درجات أكبر من المتعة والشعور بالسعادة واللذة، وهي ليست ضرباً من صرعات الحضارة الحديثة، بل هي سنةٌ جرت عليها البشرية منذ نشأتها، فالكتب السماوية تحكي قصة آدم الذي أكل من الشجرة الحرام، لا لشيء سوى الرغبة في ضمان المستقبل بالخلود، والملك الأبدي. واستمرت هذه الغريزة الإنسانية في أبنائه جيلاً بعد جيل، حيث تخصص عرّافون في ممارسة هذه الحرفة الأسطورية القديمة قدم الإنسان. ومع تقدم الحضارة الإنسانية، بدأ الإنسان في تطوير "الكهانة"، من أساطير قائمةٍ على ما يسمى الإلهام والكشف والزجل، أو الحديث مع الجان، إلى علم حقيقي عظيم المبادئ والأركان، صار جزءاً أصيلاً من أغلب المعارف الإنسانية، فهو ركن أساس في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والمناخ والبيولوجيا، وغيرها.
يذهب توفيق القصير إلى أن الاهتمام بالدراسات المستقبلية في الغرب ازداد في السبعينيات، وصدرت مجموعة دراسات حاولت استشراف مستقبل العالم عند أواخر القرن الحالي، أو على امتداد قرن. أما في عالمنا العربي، فإن الدراسات المستقبلية تكاد تكون شحيحة، إن لم تكن معدومة، وقد عزا القصير ذلك إلى قلة الوعي بدور الدراسات المستقبلية، واستشراف البدائل المختلفة لصور المستقبل، فضلا عن الحاضر، وعدم وجود تقاليد علمية راسخة، تشجع العمل البحثي الجماعي الذي تقتضيه طبيعة الدراسات المستقبلية، إضافة إلى عدم وجود المؤسسات والهيئات المتخصصة التي تبادر إلى القيام بهذا النوع من الدراسات، ودعمها، ورعاية القائمين عليها.
نتيجة لذلك، تعاني شعوب الربيع العربي أزماتٍ كبرى، تتعلق بغياب الرؤية، وانسداد الآفاق، واحتمال عودة أنظمة الاستبداد. بيد أن هذه الإخفاقات الآنية في مسيرة الربيع العربي يجب أن لا تهون عزيمتنا عن التشوف إلى المستقبل، ومحاولة توجيه مساراته.
بيد أنه، ومع التأكيد على أهمية الدراسات المستقبلية، ووصولها، في أحيانٍ كثيرة، إلى درجةٍ كبيرةٍ من الدقة، بات الإنسان يظن معها أنه قادر على التحكم بالمستقبل، والسيطرة على أحداثه، وتغيير مجرياته، إلا أن التاريخ يخبرنا أن حركة الحياة تتميز بالتغير، وعدم الثبات وفجائية الانحرافات التي ترغمنا، مرة بعد أخرى، على مسح الألواح، وإعادة ترسيم الاستراتيجيات. ومع تسارع وتيرة التطور الحضاري، يزداد باضطراد انحراف تلك القراءات، وتتسع الفجوة بين التكهنات ومسار الأحداث في الحاضر والمستقبل.

يمثل الضعف البشري أهم عوامل القصور في دقة التكهنات، فليس للإنسان القدرة على الإحاطة بمجريات الأحداث، في عالم تتداخل أجزاؤه، وتتشابك قوانينه. والإنسان، مهما أوتي من قدرات وطاقات، لا يمكنه أن يرصد كل هذا الحراك الكوني. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا القصور البشري، بالقول {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الآية 34 سورة لقمان). ويضيف نسيم طالب أسباباً تفصيلية لهذا الضعف، تكمن في تركيز الإنسان الشديد على ما يعلم، وعدم اعتباره بما لا يعلم، إضافةً إلى أنه غالباً ما يجنح إلى دراسة الجزئيات، بدلاً من التركيز على الكلّيات. ويزعم طالب أن الإنسان مجبولٌ على دراسة الأحداث الاعتيادية المتكررة يومياً، ويغفل عن دراسة الأحداث النادرة، وغير الاعتيادية، التي ربما تتسبب في أحداثٍ لها ما بعدها. لذلك، يقرر "إن عدم قدرة الإنسان على توقّع الأشياء غير الاعتيادية تعني عدم القدرة على توقّع مسار التاريخ".
إن التنبؤ بأحداث المستقبل عملية ليست يسيرة، وعلى المتشوّف لأحداث المستقبل أن يسير في طريق الكلّيات الراسخة، حتى لا تسيخ قدمه في رمال الجزئيات المتحركة. وعليه أن يكون يقظاً للأحداث جميعاً، حتى لا تصرفه الأحداث الاعتيادية المتكررة عن غير الاعتيادية والنادرة. وفي الأخير، عليه أن يكون متواضعاً جداً في يقينية النتائج التي يتوصل إليها، وأن يقدم قراءاتٍ نسبيةً قابلة للتعديل والتصحيح ومسايرة التغيرات، وأن لا يعتمد القراءات النهائية المسمطة.
كما ينبغي عليه استحضار حقيقة أن الدراسات المستقبلية، على الرغم من الموضوعية في كثيرٍ من جوانبها، فإنها لا تكاد تخلو من ذاتية الباحث ونوازعه، فهي نتاج تأملاتٍ شخصيةٍ، يستحيل، أحياناً، فرزها وتمييزها عن الأفكار والمسلمات القارّة في أعماقه اللاشعورية. ولكن، هل يمكن للمرء أن يحرر المعرفة المتعلقة بالعلوم الإنسانية، منفصلا عن تاريخه ومرجعياته. يرى جي جي كلارك أن جميع المعارف مؤسسة تاريخياً، وأن ناقد الواقع لا يستطيع، أبداً، الإفلات من الشروط التاريخية التي تحيط به، كما أن البحث عن المعرفة الموضوعية، خارج التاريخ، ليس سوى مجرد وهم. لهذا، نحن ملزمون بقبول ما يسميه هايدجر "الفهم المسبق". واستقراء المستقبل ليس فرعاً من علوم الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء أو الرياضيات، بحيث نستطيع التعامل معه بموضوعيةٍ شبه مطلقة، فدخول جزء من الذاتية غير المقصودة في هذا العمل أمر يمكن تفهمه. وعلى الباحث الموضوعي أن يصدر، في بحثه، عن الالتزام الموضوعي، وليس عن الاندماج الذاتي المعطل للعقل.
القراءات المستقبلية فريضة حضارية، لا يمكن لأي أمةٍ تنشد التقدم والبناء أن تنهض من دونها. إن ما تحتاجه القوى الفاعلة في مجتمعاتنا التي تشهد مخاض الربيع العربي المتعسر هو أن تمنهج تصوراتها ورؤاها، وأن تعتمد قواعد البحث العلمي في صياغة الخطط والبرامج للحاضر والمستقبل، حتى لا يكون مصير حراكنا الشعبي والاجتماعي الفشل والجمود. لإنجاز مثل هذه الدراسات، على تلك القوى الإيمان بضرورة الجهد الجماعي، وبنسبية الحقيقة، والحاجة إلى الدعم والإضافة، وإلى النقد والتعديل في المراحل كافة. وذلك لا يمكن أن يتم، إلا إذا آمن الجميع بالتعددية، وضرورة التعاون والتكامل، وعلى البناء المعرفي القائم على البحث والدراسة والتخطيط والنظام.

 
B5DE41FA-C582-458B-8381-0DB8027FFEB8
زكريا بن خليفة المحرمي

طبيب وباحث في الفكر العربي من سلطنة عمان، من مؤلفاته "إستئناف التاريخ... المثقف والثورة والنظام السياسي المنتظر" و"الصراع الأبدي" و"جدلية الرواية والدراية".