السوريون والاتكاء على الأوهام

السوريون والاتكاء على الأوهام

03 ديسمبر 2014

أثر قذائف النظام في سقف أحد منازل حلب (29نوفمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

يقول إيريك فروم، في كتابه "فن الوجود"، "يملك الإنسان المعاصر أشياء كثيرة، ويستخدم كثيراً منها، لكنه ضئيل للغاية، فهو يخشى من أي تغيير اجتماعي مصيري، لأن أي خلل في التوازن الاجتماعي يعني له الفوضى أو الموت، وإن لم يكن الموت، فعلاً بمعناه الفيزيائي، فهو موت هويته".

ربما انطلاقاً من هذه المقولة، يمكننا تسليط الضوء على الواقع الحالي للشعب السوري، وواقعه قبل نحو سنوات أربع، هي عمر الحراك الشعبي الذي انزلق إلى العسكرة، ثم الحرب على جبهات متنوعة، وما آلت إليه حالة المجتمع السوري. كانت البداية مفاجئة وصادمة، على الرغم من توفر الظروف الخاصة والموضوعية لانتفاضة الشعب، لكن الأفراد في المجتمع كانوا قد فقدوا قدرتهم على ابتداع حياتهم، في العقود الماضية، تحت سيطرة النظام الشمولي القمعي الممنهج، وقد كان الفرد، منذ بداية تشكل وعيه، يخضع لسيطرة أسلوب تربوي وتعليمي، قائم على التلقين، وتلقّي المعلومات والمعارف، بديهيات لا يمكن التشكيك في صحتها، أو حتى طرح أسئلة حولها. كان هذا الأسلوب التربوي يدفع الناس في أنساق مسبقة وشاملة، فتحرمهم نعمة التفكير، بل من ضمن الوصايا الضامنة للسلامة الفردية كانت مقولة التفكير يعادل التكفير أو الكفر، وما هذا الكفر غير التغريد خارج سرب القطيع، بما يتعلق بالمقدّس الديني والدنيوي، المحبوكين بعلاقة متينة، بحيث صار الخطاب الديني يركز على أن معصية الوالي من معصية الإله، وطاعته تعادل طاعة الله. حقق هذا الأمر حالة من ركود يشي بالاستقرار والثبات، فكانت فكرة التغيير مخيفة، مقلقة، رهيبة، مخلة بالتوازن، صادمة لشريحة لا بأس بها في المجتمع. هذا أدى إلى تمييز المواقف من الحراك، فليس كل من بقي صامتاً، أو وقف في الضفة الأخرى، كان موقفه يعني أنه ضد الحراك، بل هو الخوف من التغيير. وأدّى هذا الخوف إلى الانكماش على الذات الجماعية، في دوائرها الضيقة، نشداناً للأمن، وهروباً من المستقبل المجهول. ولقد غذّت هذا الشعور الأطراف المتنازعة، منذ البداية، حتى عندما بدأ الحراك سلمياً، حضر الغول الطائفي ملوّحاً، فتلقفته الوسائط بكل أشكالها وولاءاتها، وراحت تغذيه ليزداد تغوّلاً.

كان التفكير بفنّ الوجود ترفاً فيما مضى قبل الحراك. استعاض عنه الشعب بالأوهام الكبيرة، والتفكير بكيفية استغلال سبل العيش المتاحة في ظل الرهاب السلطوي المتعدد من ديني إلى سياسي إلى اجتماعي إلى اقتصادي إلخ، بإدارة نظامٍ أقنع الشعب بأن كل ما يفعله هو لمصلحته، وأنه القائد الحقيقي له في إدارة حياته، ورسم مستقبله. لذلك، أصبح الفرد أكثر عجزاً مما كان عليه، لكنه ليس مدركاً عجزه، وكلما تعاظم الشعور بالعجز، وبنقص الإرادة الأصيلة، تنامى الخضوع. إن مؤسسة المجتمع المثلى تمنح كل فرد في المجتمع إمكانية المساهمة بكل جوارحه، لكن تحقيق هذا يتطلب أن يتوقف المجتمع، وممثلوه السياسيون، أي الدولة، والرموز الدينية الفاعلة، عن الوقوف في وجه المواطن وضده.

لكن، متى يصل الإنسان إلى اليقظة الكاملة؟ إنه عندما يدرك الخطر، وفي حالة الاستيقاظ الكامل، يكون الفرد واعياً إدراكه لذاته وللعالم من حوله، فيشعر أن حجاباً كان، دوماً، أمام عينيه، ولم يكن مدركاً وجوده أصلاً، ثم سقط فجأة، فهل امتلك الشعب السوري مفاتيح إدراكه ذاته والعالم من حوله؟ وهل عندما انتفض منادياً بالحرية كان مالكاً إرادته بالكامل، وواعياً مراحل الطريق الذي يسلكه؟ أم إنه أضاع بوصلته، أو، بالأحرى، ضيّعته النخب السياسية التي أمسكت زمام قيادته، في هذه المرحلة، والجهات الخارجية التي تدخلت في توجيه الحراك، وحرفه عن أهدافه الحقيقية، والنخب الثقافية التي لم تعمل على تمتين رافعة فكرية للحراك، بل إن بعضها انزلق إلى تبنّي خطاب طائفي، أو مذهبي، أو حتى أصولي، ناسفاً، أو متنكراً لتاريخه، وما قدم من منتج ثقافي تنويري، قبل ذلك؟

على مدى أربع سنوات تقريباً من معاناة الشعب السوري، التي تعتبر من أكبر المحن البشرية في العصر الحالي، ازداد الشعور بفقدان الأمان لدى الشعب، والواقع المتغير يغذي هذا الشعور، بما ينتج من قتل وعنف وتهجير وتطهير ونزوح ولجوء وفقر وتجويع. وبالتالي، زاد من إرباك الثقة بالنفس التي هي مرتبكة مسبقاً، وشعر بتراجع الكفاءة في تحقيق عيشه، وتحقيق حلمه الذي ومض، في لحظةٍ ما، عندما انتفض طلباً للحرية والكرامة.

دفع هذا الشعور بانعدام الأمان الشعب إلى التنقيب عن أوهام يتكئ عليها، نَبَش الماضي، المتحقق الوحيد في حياته، أمام مستقبل مجهول ومنذر، اتكأ على حمولة من ثوابت رسختها عقود من الظلام والسطوة على العقول، وشلّها عن أداء وظيفتها، معتبراً إياها الحقائق الوحيدة التي إليها تسند الحياة، ويتحقق الوجود، ولم يكن يدري أنها أوهام غرّبته عن ذاته، بتشجيع ومباركةٍ تصلان إلى حد الفتوى والإلزام الديني أو الوطني، بحسب الجهة الراعية والمستفيدة من إعداد الكوادر التي تستخدمها في حربٍ وقودها الشعب.

فماذا سيحدث للإنسان إذا تخلى عن أوهامه؟ يخبرنا التاريخ أنه قادر على التخلص من قيود الأوهام، والوصول إلى جذور أي ظاهرةٍ، ثم معرفة أسبابها، فالإدراك يطلق طاقة المرء، ويحرر عقله من الغشاوة التي تعتريه، وهذا يجعلنا نستخلص أن أكثر الخطوات أهمية في إدراك الوجود وتحقيقه هي التي تقودنا إلى الارتقاء بتفكيرنا التساؤلي والنقدي، وهذه مسألة تتعلق بما يحققه الفرد من استقلال شخصي من القوى غير العقلانية، ومن الآلهة التي يمجّدها. لا يمكن الوصول إلى هذا الاستقلال إلّا بإدراك الأهمية القصوى لعدم الخضوع.

على من تقع المسؤولية في النتيجة؟ مسؤولية رصد الواقع والأوهام وتعريتهما؟ هي مسؤوليتنا جميعاً، مسؤولية كل إنسان في سورية استطاع التخلص من أوهامه الذاتية، فتحرر وعيه وانعتق. سيكون لهذا الانعتاق ثمن، ولهذا الدور في تحرير الوعي العام ضريبة، لكن هذا الثمن، وهذه الضريبة، هما الجهاد النبيل والحقيقي، بما يحمل من قيمة إنسانية، في مواجهة كل أصناف الجهاد المقدس الذي يغذي الأوهام، ويتغذى بالدماء والأجساد والأرواح والنفوس.

الشعب السوري أحوج ما يكون، اليوم، لفهم معنى الوجود، بينما يصارع من أجل العيش فقط، في وجه تحديات الحياة بأقسى صورها، وحتى يدرك أهمية هذا المعنى وضرورة تحقيقه، يجب أن ندفعه إلى السؤال الأساس: ما الهدف من الحياة؟ وماذا تعني الحياة بالنسبة للإنسان؟ ربما نساعده في تجاوز فكرة احتقار الحياة إلى درجة التضحية بها، واستخدامها وسيلة لقتل الآخر، طمعاً في حياةٍ بديلةٍ، تتحقق في عالم الغيب، أو نصرة لشعارات مضللة، لم تُنجز في الواقع، على مدى عقود، غير كذبات كبيرة، أقنعت الشعب بأنها الأسمى، وأنها تستحق التضحية بالحياة لأجلها.