الأوروبيون والقضية الفلسطينية: صحوة ضمير؟

الأوروبيون والقضية الفلسطينية: صحوة ضمير؟

21 ديسمبر 2014

من تظاهرة في برلين دعما لحقوق الشعب الفلسطيني (1أغسطس/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

بقرارها الجريء، حذف اسم حركة حماس من قائمة التنظيمات الإرهابية، أحرجت محكمة العدل الأوروبية العرب أكثر مما أحرجت إسرائيل واليمين الأوروبي الذي عجز لأسباب، أو لأخرى، عن التخلص من عقدة إثمٍ، يصر بعضهم على استدامتها. وبقطع النظر عن مدى إذعان سياسات دول الاتحاد الأوروبي إلى قرار المحكمة هذا، وهي التي ما زالت، في أحيان عديدة، غير موحدة، فإن هذا القرار يأتي ترسيخاً لمسار تصاعدي، لا يمكن الرجوع عنه، أي الاعتراف التدريجي بحقوق الشعب الفلسطيني كاملة، وفي مقدمتها، بناء دولته الوطنية على أرضه المستقلة.

السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، كجماعة أو كدول منفردة، والغرب عموماً، تعاني على امتداد نصف قرن، أو أكثر، من انفصام غير أخلاقي مضاعف، فهذه الدول، بشكل خاص، تعلم أنها ارتكبت ما بين الحربين أبشع الجرائم في حقد اليهود. ولكن، حلت ذلك الجرم بخطأ أفظع، حين أباحت لهم احتلال شعب، وأعطت لهم جميع الشرعيات الممكنة لمحوه من الوجود والتاريخ. لا ذنب للفلسطينيين فيما اقترفه الأوروبيون، والنازية بشكل خاص. ومع ذلك، تحملوا وحدهم وزر ذلك. تصوروا، مثلاً أن تمنح الولايات المتحدة الأميركية، حالياً، الهنود الحمر، دولة ما خارج أراضيها، لتكون وطناً قومياً لهم، تكفيراً عما اقترفته في حقهم خمسة قرون مضت. بمثل هذا العبث، تصرف الأوروبيون تجاه الفلسطينيين في أواسط القرن الفارط.

لا شك أن الضمير الأوروبي، في مثل هذا، غير متزن، ولا هو متناسق. ولعل هذه الهشاشة الأخلاقية جعلت من استدامة عقد الإثم تجارة رابحة، أجاد الكيان الإسرائيلي في تغذيتها. إنها صناعة رابحة، تتغذى من ذلك الشعور، حتى غدا ابتزازاً لا ينجو منه إلا القليل. تعظيم الخطر المحدق بما يرتكبه، أحياناً، بعض العرب من عنتريات وعناد، ناهيك عن أعمال غير محسوبة، جعل لهذا الإثم وقوداً وعداداً كلما نضب حسابه، أو كاد، تم تجديده ضمن صناعة الرهاب والخطر المحدق.

يأتي القرار بعد أن سعى أكثر من برلمان وحكومة أوروبية إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، حتى تتالت، في أقل من ثلاثة أشهر، مبادرات عديدة في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا... موجة هذه المحاولات هذه هي التي أثمرت، في النهاية، قرار البرلمان الأوروبي، بغالبية 498 صوتاً في مقابل 88 دعم الاعتراف بالدولة الفلسطينية مبدئياً وحث الطرفين على أن يكون ذلك ثمرة المفاوضات الثنائية. لست ممن لا يستدعون إلا التحفظات، ولكن، أعتقد أن هذا الموقف سيمثل تحولاً تدريجياً يصعب التراجع عنه، بل إنه مرشح للتطور الإيجابي، إذا ما استطاع العرب، وقبلهم الفلسطينيون، حسن استثمار هذه الفرصة التاريخية النادرة.

يبدو أن سياسة الاعتداءات المتكررة التي يقوم بها الكيان الإسرائيلي، وآخرها ما ارتكبه في حق قطاع غزة، ما يرتقي إلى مرتبة جرائم حرب، كان له أثر عكسي، حين تعاظم التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية، وأساسا الرأي العام الأوروبي. حرصت إسرائيل بذلك على دفع الفلسطينيين إلى ارتكاب "حماقات"، متوهمة أنها ستدر عليها مزيداً من التعاطف الأوروبي. ولكن، قاوم الفلسطينيون، وذلك حقهم، فكسبوا احتراماً وتعاطفاً عظيمين. مارس الفلسطينيون حقهم في المقاومة، وقد كفلها لهم القانون الإنساني والأعراف الدولية، فما من قانون دولي يقر بالاحتلال، ويعترف بأن مقاومته إرهاب.

المفارقة البارزة أن هذه القرارات المتتالية، والإنصاف التاريخي المتدرج، يأتيان في سياق يفترض أن يتم فيه تشديد الخناق عل المقاومة واعتبارها إرهاباً والعالم يتعرض إلى تهديدات حقيقية، صادرة عن إرهاب مجنون في أكثر من مكان.

يثبت الأوروبيون، أو على الأقل قسط مهما منهم، أن العقل الإنساني قادر، إذا ما تمسك بالنزاهة على الفصل بين الإرهاب والمقاومة.

لا شك أن أول من استاء من هذا القرار بعض العرب، لأن ذلك سيحرجهم أكثر، وسيجعلهم أكثر قسوة من الصهاينة. كيف ستتصرف مصر وبعض أنظمة الخليج الأخرى التي كانت تود في قرارة نفسها أن يتم تصنيف حماس، بشكل خاص، منظمة إرهابية. تخذل هذه القرارات التي صدحت بها محكمة العدل الأوروبية وبرلمانات عديدة في دول الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن البرلمان الأوروبي، شهوة بعض الأنظمة العربية.

تصر عدة أنظمة عربية على التحرش بحماس، وهي اللافتة الأبرز حالياً للمقاومة، بذريعة أنها منظمة إرهابية، أو على الأقل تشجع على هذا الإرهاب، والكل يعلم أن التنظيمات الفلسطينية، ومنها حماس، تتجنب حشر نفسها في الصراعات الحالية التي تشق المنطقة العربية، كما أنها لم تتورط في الشؤون السياسية الداخلية لهذه البلدان، فضلا عن إحجامها، منذ عقود، عن القيام بأي عمليات خارج التراب الفلسطيني، بما فيها دول الجوار التي تشكل شريطاً حدودياً، كان يفترض أن يكون داعماً للمقاومة. هذه الحقيقة هي بعض من قرائن اعتمدتها محكمة العدل الأوروبية، في إخراج حماس من ذلك التصنيف. على الرغم من ذلك، تتحرش هذه الأنظمة بحماس، حتى أنها باتت العدو الأول الذي يفيد إسناده، أو حتى مجرد التعاطف معها تخابراً مع العدو. على خلاف ذلك، يبدو التنسيق الأمني مع الكيان الإسرائيلي إحكاماً لمنظومة الأمن القومي.

في تونس بالذات، وبعد الثورة، صدرت مواقف عدائية تجاه الفلسطينيين عامة، وحماس خصوصاً، تبجحت به بشكل فج أوساط إعلامية، وحتى بعض المثقفين المحسوبين على التيارات اليسارية والليبرالية الفرانكفونية. وعلى الرغم من أن هذا الموقف يعد نشازاً، فإن تسويغه إعلاميا يظل خطراً محدقاً. تصر بعض هذه الأصوات الإعلامية التي ارتبطت بالنظام السابق على أن لحماس علاقة بما بحدث في جبل الشعانبي حالياً، وأن خنادق الإرهابيين المحفورة هناك من عملهم. هذه الاتهامات الجوفاء ليست بعيدة عن تصريحات القيادات العليا للمخابرات الإسرائيلية، التي تهنئ نفسها بالنجاح في زرع شبكة من المخبرين في تونس، فضلا عن ترويج أكاذيب لإيجاد مناح معاد للفلسطينيين. هؤلاء على مذهب أن بداية الحقيقة في السياسة كذبة ناجحة.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.