أوروبا.. النزاعات وهجرة السوريين

أوروبا.. النزاعات وهجرة السوريين

09 نوفمبر 2014

لاجئون سوريون في ميناء صقلية أثناء رحلة اللجوء (29أغسطس/2014/Getty)

+ الخط -

في مسألة النزاعات الدولية، وعلاقة الولايات المتحدة والدول الأوروبية فيها، يصح المثل العربي القائل: "الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون". من حيث أن الولايات المتحدة تضرم الكثير من هذه النزاعات في العالم، أو تساهم في إشعال نارها، بينما ترى أوروبا نفسها قد انجرّت إلى المشاركة فيها، ومن ثم تتلقى ارتداداتها، بسبب قرب القارة إلى ساحات الصراع. فتصبح، في مرحلةٍ، هدفاً لعمليات حربية انتقامية، يقوم بها ضحايا هذه النزعات، ثم هدفاً لهجرة أبناء المناطق المنكوبة إليها في مرحلة ثانية. كما هو الحال مع أبناء الشعب السوري الذين بدأوا يغرقون الدول الأوروبية في أعداد  كبيرة من المهاجرين، ومن قبلهم، كان أبناء شعوب أفريقيا وغيرهم من الشعوب.

تميّزت أوروبا، في أوقات سابقة من القرن الماضي، بامتناعها عن تأييد الحروب التي تشنها الولايات المتحدة على شعوب الأرض، أو في حياديتها تجاهها، وفي حالات ما في رفضها لها، غير أن الحروب التي شنها العراق، وشُنَّت على العراق، في القرن الماضي، غيّرت من تلك المعادلة، فأضحت أوروبا تساق بسهولة إلى حروبٍ لا هدف لها فيها ولا مغنم، بدل أن تحاول وقفها وتُعمِل الحلول الدبلوماسية لوقف النزاعات المسببة لها. فكان قبول مشاركة فرنسا في "عملية عاصفة الصحراء"، ضمن التحالف الدولي لإخراج العراق من الكويت في يناير/ كانون الثاني من العام 1991 بمثابة المسمار الذي دُقَّ في نعش القرار الأوروبي المستقل عن الولايات المتحدة. حيث كان يعول عليها، وعلى أطراف أوروبية أخرى، الوقوف ضد الحل العسكري، وإيجاد حلٍّ ما للمسألة. وتكرس هذا الالتحاق الأوربي بالقرار الأميركي في المشاركة الأوروبية في الحرب على أفغانستان عام 2001، وفي الحرب على العراق في العام 2003، حيث بدا الحنين الأوروبي إلى التاريخ الاستعماري، والسعي إلى تحصيل قطعة من الكعكة الكبيرة التي تجنيها الولايات المتحدة من حروبها جلياً.

تنبري أوروبا، أحياناً، لمعالجة نتائج المشكلات والأزمات والحروب التي تجتاح العالم عوضاً عن توجهها لمعالجة أسبابها، وبالتالي حلها. واللافت للنظر أن أوروبا عالمة لما تفعل، ومدركة أنها لا تقدم أي حل يبعد عنها، على أقل تقدير، موجات الهجرة. وإدراكها ارتدادات الأزمات الدولية قديم، لا نريد الخوض بمقدار قدمه، بل تسجيل حالة من التاريخ الحديث تدلل عليه. فقد كان استشعار الأوروبيين لأخطار النزاعات على بلدانهم، من ناحية إغراق بلدانهم بموجات هجرة ترهق اقتصادهم، وتغيّر في البنية الديمغرافية لمجتمعاتهم، قد تبدى واضحاً، حين طالب مسؤولون فرنسيون بدعم التنمية في دول العالم الثالث، لوقف موجات الهجرة من دول الجنوب إلى أوروبا. ومثال على ذلك الدعوة الصريحة التي أطلقها مسؤولون أوروبيون، والفرنسيون خصوصاً، عشية الحرب الأهلية في الجزائر عام 1990، لدعم التنمية في الجنوب، من أجل انتشال فئات واسعة من الشعب من الفقر، وبالتالي عدم تحولهم ليصبحوا وقوداً للحروب الأهلية التي إذا ما استعرت نارها، فإنها ستغرق أوروبا بالأزمات، وفي مقدمتها أزمة اللاجئين. لا داعي للتذكير بأن هذه الدعوات لم تجد الآذان الصاغية، إن لم نقل أنها وُئِدَت، لما للولايات المتحدة من مصلحة في اندلاع حروب بعيدة عن أراضيها، في بلدان ستسرع إلى شراء السلاح الأميركي، فتضخ من الدماء في شرايين معامل السلاح الأميركية ما يكفيها للعمل حتى سنوات عديدة إلى الأمام.

من هنا، نرى انشغال أوروبا بموضوع المهاجرين غير الشرعيين، وإنقاذ مَن يقصد القارة عن طريق المتوسط من سوريين وفلسطينيين، ضحايا الحرب الدائرة في سورية، منذ أكثر من ثلاث سنوات، بدل انشغالها بموضوع إيجاد حل لوقف هذه الحرب. حيث تُتَّخَذ القرارات، ويثار نقاشٌ كثير حول موضوع إنقاذ المنكوبين من هؤلاء المهاجرين في عرض البحر من عدمه، خصوصاً بعد تزايد أعداد الغرقى منهم هذا العام، مقارنة بالعام الماضي، أو ما سبقه من الأعوام، نتيجة ظروف نقلهم السيئة والوسائل القاصرة المستخدمة في هذا النقل.

ولأن إيطاليا تعتبر محطةً للمهاجرين، وممراً لهم نحو دول أوروبا الغربية، أو الدول الإسكندنافية، فإن السلطات الإيطالية تتحمّل النصيب الأكبر من مهمة إنقاذ هؤلاء المهاجرين في عرض البحر، عبر عملية "ماري نوستروم" التي تنفّذ قرب الشواطئ الإيطالية، والتي أنقذت أكثر من 150 ألف مهاجر من الغرق منذ أكتوبر/ تشرين الأول سنة 2013. لكن إيطاليا أعلنت، أخيراً، توقيف هذه العملية ودعت الدول الأوروبية إلى مشاركتها في هذه المهمة، معلنة أن توقف عمليات "ماري نوستروم" لا يعني تخلي إيطاليا عن مهمتها الإنسانية هذه، بل ستتواصل شهرين مقبلين، على الرغم من وقف تلك العملية. كما أنها ستشارك في عملية "تريتون" التي أطلقها الاتحاد الأوروبي في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، وتحاكي نشاط عملية "ماري نوستروم". ولفت الانتباه في إطار هذه الجهود، رفض بريطانيا المشاركة فيها، بحجة أن الحكومة البريطانية تدعو إلى التركيز على دول المصدر ومكافحة المهربين. وهو موقف، على الرغم من أنه يشير إلى أحد أسباب الهجرة، ويدعو إلى التعامل معها، إلا أنه يغفل أن موضوع الهجرة هو حالة إنسانية تتطلّب عملاً كثيراً للإحاطة بها.

يجري ذلك كله من دون إشارة إلى ضرورة وقف الحرب، المسبب الرئيسي لموجة الهجرة هذه، أو إلى دعم التنمية في دول الجنوب. كأن أوروبا قد صغرت، ولم تعد ترى لنفسها دوراً مؤثراً، يمكن له أن يفعل الكثير في هذا المجال، إن أرادت. أو كأنها عرِفت "قدر نفسها"، وتعلم أنها عاجزة، أو ما يمكن أن يكون الحقيقة، وهي أنه لا يراد لها القيام بدور كهذا. حتى الأمم المتحدة بدأت تدعو، بعد ازدياد حوادث غرق المهاجرين، إلى تسهيل الهجرة إلى أوروبا ومنح تأشيرات من أجل التعليم، ولمّ الشمل والنظر في الحالات الإنسانية، متناسية أن مهمتها ترقى إلى أكثر من ذلك، إلى إنهاء الحرب في سورية، ووقف الحروب وتجريم مَن يشرع بها.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.