فلسطين وعتبات انتفاضة ثالثة.. المقاومة الشعبيّة والسيناريوهات المحتملة

فلسطين وعتبات انتفاضة ثالثة.. المقاومة الشعبيّة والسيناريوهات المحتملة

28 نوفمبر 2014

الأمن الفلسطيني يقمع المنتفضين على قوات الاحتلال في الخليل(22أغسطس/2014/الأناضول)

+ الخط -

إزاء حالة الانسداد السياسي، وتفاقم الممارسات الاحتلالية الاستيطانية في المناطق الفلسطينية المحتلة، وتزايد أعمال الاحتجاج والمقاومة، تتفاوت الآراء حول احتمال نشوب انتفاضةٍ جديدةٍ في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويلاحظ ازدياد أعمال المقاومة الشعبية ذات الطابع الفردي، غير المرتبطة بفصائل وأحزاب؛ إذ تتضافر مجموعة عوامل تؤجّج المواجهة مع الاحتلال بسِماتٍ وأدواتٍ جديدة. وتحاول هذه الورقة أن تستجلي الأسباب والدوافع والخصائص المميِّزة لهذا الفعل المقاوم والسيناريوهات المستقبلية المحتملة لتطوره.
أولًا: الأسباب والدوافع
1
. انهيار المسار التفاوضي
بعد رفض إسرائيل الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين، البالغ عددهم 30 أسيراً، واستمرار الاستيطان الإسرائيلي، وتكثيفه في الضفة الغربية، وصلت المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، والتي جرت بمبادرةٍ من وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، للتوصل إلى "اتفاق إطار"، إلى حائطٍ مسدودٍ. وقد أثّر هذا الأمر في المستويين الرسمي والشعبي؛ فقد شرعت السلطة الفلسطينية في اتخاذ إجراءات تفعيل عضوية دولة فلسطين في المؤسسات الدولية، ومنها إعلان الانضمام إلى 15 اتفاقية ومعاهدة دولية، كما قامت بإتمام المصالحة مع حركة حماس. أما على المستوى الشعبي، فقد اختطف شبان فلسطينيون ثلاثة مستوطنين، قرب مدينة الخليل في 12 يونيو/ حزيران 2014. وبعد العثور على جثث هؤلاء المستوطنين نهاية الشهر نفسه، شنّت إسرائيل حرباً جديدة على قطاع غزة، محمّلة حركة حماس المسؤولية عن هذه العملية. كما أقدم مستوطنون منتمون لما تعرف بعصابات "جباية الثمن" في 2 يوليو/ تموز 2014 بإعدام الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير (17 عاماً) في شعفاط، شمالي القدس؛ إذ أحرقه المستوطنون حياً. وقد أدت هذه الجريمة إلى اشتعال الاحتجاجات في مدينة القدس وأحيائها التي ما زالت تشهد مواجهات مستمرة، وتشكل مركز الأحداث.

2. الحرب الإسرائيلية على غزة صيف 2014

شنت إسرائيل في 7 يوليو 2014 حرباً على قطاع غزة، استمرت 51 يوماً، وأدت إلى استشهاد أكثر من ألفي فلسطيني، وجرح نحو 11 ألفاً آخرين، إضافة إلى تدمير آلاف المنازل والمرافق الحيوية. وفي ظل الصمود الكبير لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، في أثناء الحرب غير المتكافئة، تابع الفلسطينيون، في الضفة الغربية، يوميات هذه الحرب بحنقٍ شديدٍ، وجاءت ردود أفعالهم على شكل تنظيم حراكات جماهيرية، ومسيرات داخل المدن الفلسطينية، وعلى خطوط التّماس مع قوات الاحتلال الإسرائيلي (مداخل المستعمرات والمعسكرات، والطرق الالتفافية المخصصة للمستعمرين، والحواجز العسكرية ... إلخ). وقد بادرت مجموعات شبابية بالقيام بهذه النشاطات، من دون الرجوع إلى قرارات حزبية مركزية، تتعلّق بتنظيمها. وكان يتخلل هذه المواجهات رشق الحجارة، وإلقاء الزجاجات الحارقة، كما حصل في الاحتجاجات المتكررة قرب معسكر "عوفر" قرب مدينة رام الله، و"مسيرة الـ48 ألف" قرب حاجز قلنديا على مداخل مدينة القدس، والتي اعتبرت الأكبر حجماً خلال الحرب. وعزّز من زخم هذه المسيرة الاحتجاجية غياب أجهزة الأمن الفلسطينية التي لطالما كانت تمنع مثل هذه الاحتجاجات، باعتبار أن المنطقة تقع ضمن نطاق السيطرة الإسرائيلية المباشرة، ويُمنع وجود قوات السلطة الفلسطينية فيها. كما نظّمت هذه المجموعات الشبابية، بالإضافة إلى بعض مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، حملات مقاطعة للبضائع الإسرائيلية، وجمعت تبرعات عينية ومادية للقطاع.

3. اعتداءات المستوطنين المتكررة وسياسات تهويد القدس

كثفت حكومة بنيامين نتنياهو نشاطاتها الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية في القدس والضفة الغربية، وكانت هذه أحد أسباب تعثّر مسار المفاوضات مع الجانب الفلسطيني؛ إذ شهد العام الجاري، وحده، بحسب دائرة المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية، مخططات لإقامة أكثر من 14 ألف وحدة استيطانية في الضفة الغربية، ويقع نحو نصفها في القدس الشرقية.
وعملت حكومة نتنياهو، أيضاً، على تنظيم اقتحامات المستوطنين المتطرفين والجنود والحاخامات اليهود، شبه الأسبوعية، للمسجد الأقصى وتمويلها وتشجيعها، والتي بلغت ذروتها في الأشهر الثلاثة الماضية؛ إذ سهّلت لجنة الداخلية التابعة "للكنيست" هذه الاقتحامات، بمساعدة شرطة الاحتلال وجيشه. وضمّت هذه الاقتحامات شخصيات متطرفة بارزة، مثل وزير الأمن الداخلي، إسحاق أهرنوفيتش، ووزير الإسكان، أوري أريئيل، ونائب رئيس "الكنيست" الإسرائيلي، موشيه فيجلن. كما صعّدت الحكومة الإسرائيلية من هجماتها الاستفزازية لمشاعر الفلسطينيين بطرح اللجنة الداخلية البرلمانية الإسرائيلية مشروع قرارٍ يُتيح تقاسم المسجد الأقصى، زمانياً ومكانياً، بين اليهود والعرب ومحاولة فرضه كأمرٍ واقعٍ من خلال الاقتحامات المتكررة.


ثانيًا: السمات المميِّزة للعمليات الأخيرة

نتيجة لهذه السياسات الإسرائيلية والاعتداءات المتكرّرة وحملات الاعتقال، ظهرت مدينة القدس بوصفها مركزاً للعمليات النوعية التي نفّذها فلسطينيون، بقرارات فرديةٍ، شملت عمليات دهس، وطعن بالسلاح الأبيض، وإطلاق نارٍ على عددٍ من المستوطنين وجنود الاحتلال الإسرائيلي. ولا تعدّ هذه العمليات أساليب جديدة، ولكن ما يميّزها التالي:
طغيان الجانب الفردي (اشتراك شخصين كحدٍ أقصى) على العمليات، تخطيطاً وتنفيذاً، وبعيداً عن العمل الحزبي المنظّم. وعلى الرغم من مسارعة بعض الفصائل للإعلان عن مسؤوليتها عن بعض هذه العمليات، فإنه كان من الواضح أنها تجري بمبادرة فردية، ومن دون معرفة الأطر القيادية؛ ما يؤكد ضعف الفصائل والأحزاب، بسبب حالة الانقسام السياسي، وحالة الانفصال عن الواقع التي تعانيها، وغيابها عن ساحة الفعل الجماهيري في ظل الأحداث الأخيرة.
تمركزت هذه العمليات في العمق الإسرائيلي، انطلاقاً من مكان تنفيذ العملية وهوية المنفّذ (القدس، والأراضي المحتلة عام 1948)، نتيجة وجود احتكاكٍ مباشرٍ مع المستوطنين وقوات الاحتلال؛ وهو الأمر الذي تفتقده مدن الضفة الغربية سوى على أطراف المدن الخارجية، فضلاً عن خضوعها للقبضة الأمنية للسلطة الفلسطينية، والتنسيق الأمني عالي المستوى الذي يمنع أي احتكاكٍ قد يحصل وفقاً للاتفاقات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي. لقد وقعت العمليات الأخيرة في مناطق خارجة عن سيطرة السلطة الفلسطينية.
يصعب السيطرة على هذه العمليات، والتنبؤ بحدوثها، وفقاً لمعلومات استخباراتية، أو إجهاضها عبر اعتقال المخططين، كما جرت العادة في عمليات المقاومة التقليدية.
السيناريوهات المستقبلية

على الرغم من صعوبة التنبّؤ بمستقبل عمليات المقاومة الفردية، والنتائج التي يمكن أن تحققها في ظل غياب البعد التنظيمي الضامن لاستمراريتها، تقف المقاومة الشعبية الفلسطينية أمام احتمال أن تتطور هذه الأساليب الفردية، حتى إن بقيت محدودة جغرافياً لتشكل نهجاً جديداً في العمل المقاوم، وخصوصاً في الأماكن غير الخاضعة أمنياً لسيطرة السلطة الفلسطينية. ويصعب التكهن بذلك، بسبب طبيعة هذه العمليات، ولكن، الأهم أنها تمثّل إشارات قوية جداً لحالة تململٍ وغليانٍ تحت السطح في المجتمع الفلسطيني.
إنّ الظروف التي يعيشها الشعب الفلسطيني في ظل تمادي الاحتلال في الاستيطان وتجاهل الدول العربية والعالم لسياسة الاحتلال هذه، فضلاً عن انسداد آفاق التسوية والمناورة السياسية نتيجة مواقف حكومة نتنياهو الواضحة في رفضها الحل السياسي، تعدّ ظروفاً مشابهةً لما ساد عشية الانتفاضات السابقة.
ولكن المتغيّر الرئيس الذي يصنع الفرق، حالياً، مقارنة بظروف الانتفاضات السابقة، هو سلوك السلطة الفلسطينية، وتغيّر العقيدة السياسية لأجهزتها الأمنية؛ ما يرجّح أن تتحوّل أي انتفاضة فلسطينية إلى مواجهة فلسطينية ـ فلسطينية. وقد يتضاءل هذا الفرق في مقابل حجم الغضب تجاه ممارسات الاحتلال، إذا لم تجد السلطة الفلسطينية وقيادتا حركتي فتح وحماس ما تقدمانه كبديلٍ نضالي للشارع الفلسطيني في هذه الظروف.