زيارة البشير مصر.. وأية زيارة؟

زيارة البشير مصر.. وأية زيارة؟

25 أكتوبر 2014

عمر البشير وعبد الفتاح السيسي في القاهرة (18أكتوبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

لم تخرج زيارة الرئيس السوداني، عمر البشير، مصر، أخيراً، عن سياق رحلاته خارج بلاده، طوال السنوات الماضية. صاحبها ضجيج وصخب كثيران، على ضفتي وادي النيل شماله وجنوبه. بالطبع، اختلف الأمر عن صخبٍ أصبح معتاداً بشأن المحكمة الجنائية الدولية، وبات سمة مصاحبة للرئيس البشير، في كل مرة، يخرج فيها عن حدود السودان، طال وقته أم قصر. وسيسجل التاريخ أن هذه الزيارة، بما صحبها من مظاهر سالبة جداً، على صعيد الإعلام المصري، خصوصاً الذي احتفى بالبشير، على طريقته، وبصورة لم تشهد لها مصر مثيلاً من قبل، في احتفاء بأي رئيس دولة يزور مصر. هاجموه وسخروا منه أيما سخرية، ورسمت صحف، ونشرت ما شاء لها تنكيتاً وتبكيتاً في شخص البشير. ولم يختلف الأمر حتى بالنسبة إلى السودانيين، على صعيد وسائط الإعلام الجديدة، التي هاجمت بطريقتها البشير، وزيارته مصر. ولكن، من منطلقات أخرى. 

الزيارة تمت في توقيت غريب، وفي ظرف سياسي مختلف، في كل وادي النيل، لا يشبهه أي ظرف آخر في التاريخ الحديث بين البلدين أبداً. ظرف تواضع فيه الأداء الحكومي في البلدين، وبدرجة تدعو إلى الإشفاق، وتواضعت فيه الأحلام بدرجةٍ، بات أقصى ما يتمناه مواطن شمال الوادي الأمن والحرية والخبز، وتطبيع الأوضاع علها تعود إلى نقطة أقرب مما كانت عليه مصر قبل سنوات قريبة، وتدهورت فيه أوضاع السودان بدرجةٍ، أقل ما يقال فيها "محزنة"، لأنها تعدت مقاييس السوء بدرجةٍ، يصعب مقارنتها بأية مرحلة مرت على السودان من قبل. بلدان متعبان يعانيان من ويلات الفساد الذي نخرهما، ومن الفقر الذي غرس أنيابه في أريافهما، والتدهور الاقتصادي، الذي أصبح المعلم الأهم لتوصيف حال البلدين، التي تدعو إلى الإشفاق على المصير.

في الماضي، كانت تستوقف المهتمين الفجوة المعرفية بين البلدين، وكيفية معالجتها. واليوم، لم تعد المعرفة تهم ضفاف النيل، وبات الشغل الشاغل لفقراء البلدين ردم فجوة البطون، وهوة تهدد بالسقوط من فرط الفقر وقلة الحيلة. الثقافة، اليوم، سلعة لا وجود لها في قاموس المواطن العادي في وادي النيل، وحلت مكانها نعرات ضيقة مناطقية وقبلية وشوفينية. وبات أفضل ما يقدمه الإعلام في البلدين وجبة تافهة ينشغل بها الناس في البلدين، ويغرقون في تفاصيل منحطة حول صورة المكان الذي التقى فيه الرئيسان، وكيف كانت خارطة مصر العتيقة تقدم حلايب وشلاتين مصرية، وكيف غاب العلم السوداني من الجلسة.  كانت الخرطوم الشعبية غير عابئة بما سيفعله البشير في القاهرة، لأن شاغل الناس لقمة العيش واللهاث لإدراك متطلبات الحياة اليومية، وما أصعبه من ماراثون يومي.  فما الذي سيتغير طالما السودان لم يعد على حاله، ثلثه قد راح وثلثه الحالي يعاني من ويلات الحرب، وفي أخصب مناطقه مستودع الغذاء والزرع؟ وما الذي ستجنيه مصر من حلايب وشلاتين "وزفت الطين"، طالما كانت القضية الأهم متعلقة بالحريات والغذاء والوضع الاقتصادي المنهار؟ وكما يقول أهلنا في مصر "دي نقرة ودي نقرتين"، وهذه العبارة هي الأصدق في تصوير حال البلدين اليوم. 

ترى ماذا قال الرئيسان بشأن الحريات المفقودة وحقوق الإنسان المضيعة في البلدين؟ تراهما كيف نظرا إلى سرطان الفساد، وإلى الفقر الذي يلف البشر والأرض والماء والنيل على "قفا من يشيل"؟ تراهما كيف نظرا إلى الخيانة الحقيقية في التنمية المزيفة والأولويات المعكوسة، التي لا خير فيها سوى تضخيم جيوب الأغنياء في البلدين، على حساب الغالبية المسحوقة من الفقراء؟ كانت التنمية المزيفة عار سبعينيات القرن الماضي، شعارها المصنع الأكبر في أفريقيا والعالم، وللبلدين من هذا اللحن الصادم نصيب عظيم من الفساد. وأصبح الشعار، اليوم، الطريق الأطول، وعليه تجتمع كل أشكال تماسيح الفساد. تراهما كيف نظرا إلى وضع العربة أمام الحصان بجعل الزراعة والغذاء القضية المقدمة، لأن إنسان وادي النيل يموت جوعاً، وما من أمةٍ جائعةٍ وضعت قدماً في التاريخ أبداً. 

شعب وادي النيل، اليوم في مصر والسودان على مفترق طرق وأزمة خانقة. ويمكننا أن نتخلى عن كل مشاعر الألم والضيم والغبن، شمالاً وجنوباً، تجاه كل النخب السياسية والمثقفة، التي صادرت أعز ما لدى الإنسان، حريته، وغيبت حقوقه، وأصبحت تغذيه بالروح الشوفينية والجهوية. يمكننا تناسي خيبات العقود الماضية، في مصر والسودان، في مقابل إعادة عقولنا إلينا، وإشراك شعبي البلدين في صياغة حقيقية لطريق المستقبل، والخروج من عار التخلف والفقر. فالإنسان البسيط، في مصر أو السودان، أكثر إدراكاً للمعنى الحقيقي للجوار واقتسام المنفعة، وأكثر إدراكاً للمعادلة البسيطة لجعل البلدين يمضيان معاً في جوار ينفع، ويسمو فوق روح حلايب وشلاتين القبيحة، والتي تفتقت عنها عقليات مريضةٌ شمالاً أو جنوباً. الإنسان البسيط في السودان ومصر يدرك المعنى الحقيقي لقوة كامنة على ضفاف النيل، تحتاج إلى من يضعها في سياقها الطبيعي، لتنساب انسياب مياه النيل العظيم. والتاريخ يعلمنا أنه ما تقدم السودان ومصر ضعيفة، وما علت مصر بين الدول بدون سودان موحد متطلع قوي.

ليست الحدود التي تحتاج، اليوم، إلى إعادة ترسيم، وإنما عقولنا وعقول حكامنا الذين أنهكونا بترهاتٍ، وشغلونا عن جادة الصواب بطموحاتٍ خائبة، لا تتعدى الحفلات والتبويس الزائف، وعبارات العلاقات التاريخية والأزلية إلخ..  لتذهب النخب الفاشلة عنا، فقد هرموا، وهم حكامنا، وما جنينا منهم شيئاً غير الخيبات المتتالية.. ليتهم يرحلون عنا إلى حلايب وشلاتين، عساهم يجدون ما في مخيلتهم المتهالكة الخربة هناك، وليدعوا شعب وادي النيل، لينعم بالحرية، عساه يستعيد عقله المستلب، ويهنأ جسده المنحول بطعم طمي النيل، ليشق طريقه ممتطياً صهوة النيل، وعداً وخضرة وحياة كريمة، وحتما سينال مناه ومقصده. وليدرك مَنْ جعل من نكبات البشر في واديي النيل مطية لمزيد من الغنى أنه من هنا كانت الحضارة تشرق على البشرية. ومن هنا، وفي ظل الحرية ودولة القانون، كان الإنسان مَنْ علّم البشرية معنى الإبداع والتقدم، وهي، اليوم، الثمرة المحرمة وحلمنا المفقود. ما نريده احترام عقولنا، ونشر مائدة الرؤى المستقبلية للشعبين، فهي أرحب من قناعاتكم ومن أفكار خربة مكرورة، بدليل أننا لم نسمع من هذه الزيارة غير ما هو مسموع من عقود، وهو كذب صراح. طابت لكم حلايب وشلاتين، هي لكم، ولنا وادي النيل الجميل.

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.