يحيى السنوار روائياً

يحيى السنوار روائياً

14 ديسمبر 2023
+ الخط -

لا اسم يتكرّر حالياً في إسرائيل أكثر من يحيى السنوار، فالرجل تحوّل إلى كابوس يقضّ مضجع رئيس الوزراء الإسرائيلي، فمرّة يوجّه الأخير إليه الرسائل، وأخرى إلى رجاله، مناشداً إياهم عدم الموت من أجله، أما فضيحته الكبرى فكانت عندما أعلن أن جيشَه يحاصر منزل السنوار، ليخرج بعده الناطق باسم هذا الجيش قائلاً إن الرجل ليس في بيته أصلاً.

يبدو السنوار في البروباغندا الإسرائيلية أقرب إلى الأسطورة (الشرّير كاملاً ومجسّداً)، وذاك اختزال للصراع في أشخاص أو رموز، بما يعزله عن تاريخه ومسبّباته وديناميّاته. ووفق هذا المنطق، ينتهي الصراع إذا تم التخلّص من السنوار، وهذه مقاربة بالغة السذاجة، لا يأتيها إلا ساسة حمقى من طينة نتنياهو وأضرابه، فالسنوار واحدٌ من عشرات القادة الفلسطينيين الغزّيين الذين يديرون واحدةً من أكثر معارك الفلسطينيين أهمية في تاريخهم، ولو لم يكونوا موجودين باسمائهم لوُجد سواهم، فأصل الصراع ومصدر الشرور كلها هو الاحتلال نفسُه، وببقائه، كل طفل غزّي مرشّح للتحوّل إلى سنوار جديد أو محمد ضيف آخر أو يحيى عيّاش، وسواهم من حلقات سلسلة الفولاذ الذي لا يُكسر في العمود الفقري للمقاومة الفلسطينية التي أنتجت أساطيرها، سواء في غزّة أو الضفّة الغربية.

يريد نتنياهو نصراً مظفّراً، وكلما استعصى عليه الأمر خفّض سقفه، ولجأ إلى الاختزال والثنائيات، ولا بأس من تركيز آلة الدعاية على رجلٍ واحد، هو السنوار، فإذا نجح في اغتياله سارع إلى ادّعاء النصر. لكن ذلك لو حدث، فإنه لا يعني نهاية الرواية الكبرى لشعبٍ لم يترك وسيلةً لتحرير أرضه إلا وجرّبها، وجديدها أخيرا سلب الطرف الآخر ميزة الضربات الاستباقية التي هزم بها جيوشاً ودولاً في المنطقة، لكنه عجز عنها يوم 7 أكتوبر المجيد، حين مرّغ مقاتلو القسّام أنف جيشه في التراب، واقتادوا جنودا منه كالخراف إلى قطاع غزّة، أسرى لمقاتلين لم يتخرجوا من كليات حربية، بل من مرجل الغضب، لأن بلادهم ترزح تحت نير أسوأ وآخر احتلال في العالم.

من بين هؤلاء يحيى السنوار الذي تحوّل إلى كابوس لنتنياهو ويوآف غالانت وسواهما، فكيف تأتّى للمعتقل السابق في سجونهم قيادة واحد من أكثر النزالات إذلالاً لجيشهم؟ هذا ما لا تسأله نخب إسرائيل، المُهانة، التي تسعى إلى تضميد نرجسيتها العسكرية الجريحة بمزيد من الانتقام الأعمى، ولكنها إذ تفشل تخفّض عدد أهدافها أو تقلّلها، وتقصرها ضمنياً على فكرة اغتيال السنوار. بهذا يتحوّل الرجل إلى البطل - الضد في الرواية الإسرائيلية، الكابوس الذي لا يبرح منامات قادتهم، رغم أنه بطل "روايته هو" القائمة على تفكيك "روايتهم" هم. ومن المفارقات أن يكون الرجل قد جرّب كتابة روايته "الأدبية" بالموازاة مع كونه بطلاً في مكان آخر، ونموذجاً تهديمياً في رواية أخرى.

كتب السنوار رواية "الشوك والقرنفل" عام 2004 (غير متوفّرة في الأسواق وتوجد مقرصنةً على الإنترنت)، رغم أن وجود السنوار نفسه هو الرواية الأكثر أهمية، فلا الصورة التي يشيعها نتنياهو عنه هي روايته، ولا الرواية التي كتبها في سجن بئر السبع هي ما يمثله، فهي لا تكتسب أي أهمية أدبية تُذكر، وتبدو أقرب إلى السيرة الذاتية رغم توسّلها تقنية الراوي كُلّي العلم، وهي لا تُعنى بالخيال ولا المعمار الفني أو الغوص في أعماق الشخوص وسيكولوجياتهم المعتمة، بل بسرد قصة أسرة الراوي التي فقدت الأب والعم في حرب عام 1967 (الأول اختفى والثاني استشهد)، وكم قاسى أفراد هذه العائلة، وكيف تكوّن وعيهم مع تطوّر المقاومة في مخيم الشاطئ في قطاع غزّة، وتحديداً وعي بعضهم بما يمكن وصفه بأسلمة الصراع، ودخول "الإخوان المسلمين" على خطّه العسكري والسياسي، وخصوصاً في انتفاضتي الحجارة والأقصى.

بهذا، تظلّ "الشوك والقرنفل" وثيقة لفهم خلفيات نشوء حركة حماس التي كانت غزّة حاضنتها الأولى والكبرى، ومختبرا لتجربتها السياسية والعسكرية، فلا قيمة أدبية، كما سلف القول، للرواية، بل توثيقية وسوسيولوجية لفهم "حماس"، والسنوار نفسه إذا شئت، وكلِّ طفل غزّي قد يصبح سنواراً آخر في مقبل الأيام، فالبطولة هنا ليست في الرواية (الأدب) بل في الحياة نفسها، الظالمة، القاسية جداً، التي دفعت السنوار ليصبح ما هو عليه، ويتحوّل إلى كابوس نتنياهو وغالانت وسواهما، ما دامت بلاده تحت الاحتلال ولم تتحرّر.

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.